مثل أي إنسان أحزنني حادث اغتيال المصلين في مسجدين بمدينة كرايستشيرش بدولة نيوزيلاند. فكرت أن أعلق عليه علي الفضاء الافتراضي لكني توقفت لسبب بسيط جدا. التعليق عليه سيدخل بي إلي منطقة نقاش أكثره لا علاقة له بالموضوع. فلو قلت كما قال غيري إنه تطور طبيعي لأعمال العنف والإرهاب التي يقوم بها المسلمون من المتطرفين سأجد من يقول وما علاقة التطرف بالإسلام ويدخل بي في موضوع آخر. ولو قلت إنه تطور طبيعي لحوادث الإرهاب من العرب في العالم العربي والعالم سأجد من يقول وما علاقة العروبة بالتطرف. ولو قلت إنه أحد مظاهر التطرف في البلاد الأخري لدخل من يقول لماذا إذن يتهموننا بالتطرف. وهكذا. فكتبت أنه من الأفضل في مثل هذه الظروف أن أترحم علي الشهداء وكفي. والحقيقة أني كنت أريد أن أقول شيئا سأقوله هنا. أحزاب اليمين موجودة في كل الدول المتقدمة منها وغير المتقدمة. فهي في أمريكا وأوربا وآسيا واستراليا وأمريكا الجنوبية. هذه الأحزاب تصل مثل غيرها كثيرا إلي الحكم ونحن نري أمامنا مثالين كبيرين. ترامب رئيس أمريكا وماكرون رئيس فرنسا. لكن هذه الدول قطعت شوطا في الديموقراطية - في الحرية والمساواة - لا يستطيع اليمين أن يتجاوزه بسهولة كما يتجاوزه في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية. ونحن نري ما يقابله ترامب من رفض من الكونجرس وغيره مثلا لمحاولته قطع طريق الهجرة من أمريكا الجنوبية إلي أمريكا الشمالية. وما يقابله ماكرون من مظاهرات لانحيازه للأغنياء. لكن من بين الناس العاديين الذين لا يتقلدون مناصب تنفيذية - سياسيين أو غيرهم - من تجد ارتفاع صوته بموافقة ترامب. بل والهجوم علي رئيسة وزراء ألمانيا أنجيلا ميركل لازدياد هجرة المسلمين إلي ألمانيا. الأمر يختلف حين يصل السياسيون من هؤلاء إلي الحكم. يجدون أمامهم سدا قويا من التراث الديمواقرطي لا يخرجون عليه بسهولة وقد لا يستطيعون وهذا هو الأغلب. وبالمناسبة اليمينيون ضد بقية شعوبهم أيضا من العمال والمزارعين وكل الأقل اجتماعيا. إذن فالذي جري من الإرهابي المتطرف في نيوزيلاند أمر في معناه العام يتفق مع كثير من الأحزاب اليمينية لكن في تنفيذه يتفق مع المتطرفين من بينها إذا امتلكوا القدرة والفرصة. علي الجانب الآخر لابد لنا من الاعتراف أن هجرة المسلمين إلي هذه الدول زادت عن كل عصر وبعضهم هناك لا يحاول التأقلم مع الحياة الجديدة فيظل متمسكا بعادات ليست لديهم في الملبس والمأكل والسلوك مما يسبب ارتباكا للبعض في الحياة العادية. هذا الارتباك تحاول بعض الدول أن تسن قانونا ضده ولا تستطيع لأن القوانين مع الحريات. قانون منع النقاب مثلا علي ذلك لم تنجح فيه أكثر الدول هناك. يتبقي الأمر لليمينيين خارج الحكم الذين لا يجدون من الديموقراطية تنازلا إلا نادرا في مواجهة هذه المظاهر الجديدة بينما هم يرونها أمامهم ويخشونها فيلجأون للأعمال الفردية مثل الاعتداءات التي حدثت علي أفراد في ألمانياوانجلترا وأخيرا علي مجموعات. لكن أهم من المظاهر الغريبة علي هذه المجتمعات فإن العمليات الإرهابية التي يقوم بها طائفة أو طوائف من المسلمين في بلادهم لا تغيب عنهم في عصر الفضاء المفتوح وبعضها أو كثير منها يصل إليهم. ولقد رأينا ذلك في فرنسا في عمليات إرهابية مرعبة من التفجيرات إلي الدهس ورأيناه في ألمانيا وأحيانا في انجلترا وإسبانيا. من في الحكم يستطيعون أن يميزوا بين مرتكبي هذه الجرائم وبين الأديان والشعوب أو يُجبرون علي ذلك بفعل التراث الديموقراطي لكن من في خارج الحكم من اليمينيين - وأكرر هذا دائما - لا يستطيعون هذا التمييز بحكم أنهم يعيشونه ويتأففون منه أو يكرهونه ويريدون التخلص منه ولا يعرفون كيف وهذه العملية تؤكد ذلك. طبعا الإرهاب لا دين له. ومرتكب العملية الأخيرة في نيوزيلاند أعلن عن إلحاده. وحتي لو لم يكن ملحدا فالإرهاب جريمة في حق مخلوقات خلقها الله لكن هذا لا يتوفر عند اليمين - بل هو فرصة له - لأن من يقوم به في أوربا والعالم العربي مسلمون يعلنون أنهم يفعلونه باسم الإسلام فشاه الإسلام. صعب أن تطلب من يميني في أوربا أن يفهم أن داعش وغيرها صناعة غير إسلامية بقصد تفتيت البلاد العربية وبالذات البلاد صاحبة الحضارة القديمة لأنه باختصار يؤمن أن لا أحد يجبرك علي شيء إلا إذا كانت لك رغبة فيه، ولا أحد يأخذ منك شيئا إلا إذا كنت موافقا عليه. لا يعترف حتي بالضعف لأنه باختصار قوي أمام أكبر سلطة في بلاده. هذه القوة عنده لا يتصور أنها ليست عند غيره فالتعميم يريحه. الإسلام والمسلمون معا سبب الإرهاب في نظره. وأخيرا، بالمرة، كل من حاول ربط الإرهاب بتاريخ أوربا القديم أضيف إليه تاريخ أمريكا التي كانت تري في الزنوج طائفة أقل من البيض وتتاجر فيهم وتجد في الدين تفسيرا وتستعبدهم وتقتلهم كما الذباب يوما لكن بذمتكم ألم يفعل المسلمون عموما- عربا أو عثمانيين أو مماليك - ذلك في فتوحاتهم أو غزواتهم القديمة أو في البلاد التي استقروا فيها؟ اقرأوا التاريخ. كل العالم مرّ بهذه التجربة لكن العالم المتحضر خرج منها إلا اليمين الذي قد يتحدث براحته في الحياة لكن حين يصل إلي الحكم يصطدم بتراث من الحرية والمساواة. نجاحه يعني الفاشية ففي النظم الفاشية فقط إجماع علي كراهية الأجناس الأخري لكنها بادت ولن تعود تلك البلاد إليها، فهل فعلنا مثلهم؟. أرجو أن نفعل ونتقدم في الحرية والمساواة بصرف النظرعن بقاء قلة يمينية دائمة في كل زمان ومكان.