وقد طالعت معظم ما كتب وأذيع عن إقالة وزيرة الصحة للأستاذ الدكتور جمال شعبان عميد معهد القلب الذي شهدت له أعماله بالتفوق والنجاح الباهر حتي باعتراف الوزارة في بيان عن إنجازاتها نشرته منذ حوالي شهر تشيد فيه بما أنجز في المعهد. وليس المجال هنا لمناقشة من المحق ومن المخطئ، فقد قام عنا بهذا الواجب معظم من كتبوا، لكنني أتجاوز التفاصيل للحديث عن لب المشكلة، وهي أن العملة الرديئة دائماً ما تطرد العملة الجيدة. وسبق أن كتبت لك هنا: أن غاية التاريخ في مجملها هي تحقيق التقدم، وهو في كل مساراته عبر الزمان والمكان كان مدفوعاً دائماً بقادته وأبطاله، وهم رجال ونساء دفعت بهم قدراتهم وأعمالهم ومصائرهم إلي تشكيل التاريخ في صعوده وتحقيق أهدافه. ولقد استهوي ذلك المبحث علماء الحضارة، وقد رأوا أن التقدم رهن بعطاء الشعوب وقدرتها علي الصمود والتحدي والاستجابة كما قال أرنولد توينبي، أو كما ردها بعضهم لعبقرية الفرد كما قال مايكل هارت في كتابه »العظماء مائة» أولهم محمد صلي الله عليه وسلم، بما أحدثه من تأثير في العالم كله، بما يؤكد دور الفرد وأثره التاريخي في صنع النهوض والتقدم. ولقد ذهب مفكرونا العرب إلي أن التقدم والنهضة فعل تاريخي ينجزه حامله الاجتماعي، »البشر، النخبة والجماهير» من رجال ونساء يدركون بوعيهم التاريخي أن الخروج من واقع تخلفهم يقتضي امتلاك آلية هذا الفعل وإمكاناته وحدوده ووعيه وقدراته، وهو ما اصطلحنا علي تسميته اختصاراً: بالكفاءة. ومن أسف أن نكبت بلادنا المحروسة بآفة العصر التي لا نستطيع حتي يومنا هذا الفكاك من إسارها، ألا وهي معاداة الكفاءات والمواهب، وتنكب المؤهلين والقادرين بالاستبعاد والتهميش، مفضلين عليهم الطيعين العاطلين عن كل موهبة، اللهم إلا قدرتهم علي النفاق والانحناء وسهولة الانقياد، وهذا ما يفسر تواضع مستويات الإدارة في معظم مؤسساتنا، بما سبب كوارث كنا في غني عنها لو أوسدنا الأمور للقادرين عليها والمؤهلين للقيام بأعبائها. والأمثلة علي ذلك كثيرة ماثلة أمامنا في معظم مواقع الإدارة ومحافظاتنا وأحيائها وشركاتنا ومؤسساتها وحتي في جامعاتنا ومراكزنا البحثية. وهنا يطرح السؤال نفسه، هل هي مسئولية الدولة وأجهزتها المعاونة وحدهم؟ أم هي مسئولية محيطنا السياسي العام ونخبنا المشغولة بمصالحها الذاتية الضيقة؟ أم هي مسئولية أحزابنا السياسية في عدم تقديم قيادات جديدة مؤهلة وأفكار غير تقليدية تتغيا الصالح العام وتدفع بمصالح الوطن وتحقيق ما ينتظره الشعب من إنجاز يلبي حاجاته ومتطلباته. ولعلنا بكل التجرد والإنصاف لا نعلق مسئولية الإصرار علي اختيار الأقل كفاءة في عنق الأجهزة وحدها، إذ مسئولية الأحزاب السياسية أن تكون شريكة في تقديم الكوادر والكفاءات، بل لا أتجاوز الحقيقة إذا قلت إن من واجبها أيضاً صنعها وتخليقها وإعدادها. وهذا ما تفعله الأحزاب في دول الديمقراطيات العريقة، تصنع الكوادر وتتعهدها بالرعاية والصقل والتدريب، وتكفل لها اكتساب الخبرة وحس الممارسة الهادفة ليكونوا قيادات ووزراء ومحافظين ومسئولين علي درجة من الكفاءة والتمكن والقدرة، تؤهلهم للتعاون مع الكفاءات لا مطاردتهم وإقالتهم. وانظر كيف صنعت الأحزاب السياسية في إطار الديمقراطيات الأوروبية قيادات تاريخية مثل فيلي برانت وجيرهارد شرودر ويوشكا فيشر وإنجيلا ميريكل في ألمانيا، ميريكل دارسة الفيزياء الناشطة في أحزاب ألمانياالشرقية منذ الصغر، تتقلب وتتدرج في الحزب الديمقراطي المسيحي ويتعهدها هلموت كول بالعمل إلي جواره ومطبخه السياسي لتصبح أقوي سياسية أوروبية تحقق النهضة لبلادها. وانظر كيف جاءت فيديريكا موجيريني مفوضة الاتحاد الأوروبي مروراً بوزارة خارجية إيطاليا بعد أن كانت مسئولة العلاقات الخارجية في حزب الشبيبة الشيوعي الإيطالي وتدرجت حزبيا حتي أصبحث تضطلع حالياً بمسئوليات جسام عن أوروبا كلها. ولعل في ذلك درساً تتعلمه أحزابنا السياسية لتبدأ في إعداد كوادرها، وتستقطب الكفاءات وتعهد إليها بتأسيس حكومات ظل، وتكوين مراكز تفكير ودراسات تكون جاهزة لتولي مواقع المسئولية في الحكومات القادمة، حتي لا نفاجأ باختيارات بائسة تؤخر أكثر مما تقدم وتفشل أكثر مما تنجح، إنها مسئولية الأحزاب تحت قبة البرلمان، وهي السبيل الحقيقي لدعم الدولة وتحقيق طموحات شعبنا لنكون أقرب لكسب معاركنا مع الإرهاب والتخلف والعشوائية والتشوه الإداري والإرتجال. إن التمركز في دوائر ترصد المواهب وأصحاب القدرات، والإصرار علي اختيار الأقل كفاءة، هو آفة ينبغي تجاوزها. إنها مسئوليتنا جميعاً شعباً وأحزاباً وكتاباً ونواباً ومثقفين، وحكومة وأجهزة ودولة. وبهذا وحده نكون قد حققنا دورنا في التاريخ، ولم نخزل أجيالاً قادمة، ولا نستبعد أصحاب العلم والمعرفة والكفاءة. ولتكن واقعة تجاوز وزيرة الصحة في حق أستاذ كبير مدخلاً لإصلاح سياسي نرنو جميعاً إليه. فلا تتركوا هذه الواقعة تمر دون تحقيق وقرار ومحاسبة.