كل من يريد أن يتعمق في فهم مدي قوة وعظمة الشعب المصري وإرادته الصلبة ورسوخ قيم الحرية والكرامة في تحركاته ومواجهاته وتحدياته.. وكل من يريد أن يزداد إدراكه برهافة الحاسة الديمقراطية لدي هذا الشعب وإيمانه بمبدأ المواطنة والدولة المدنية وحرية الفكر والمعتقد والاستقلال الكامل.. عليه أن يستعيد دروس الثورة المصرية الكبري عام 1919 في عيدها المئوي. لقد تسلم الشعب زمام الحركة الوطنية بنفسه ابتداء من 9 مارس 1919 وتغير المسار تغيراً جذريا.. فلم يعد يبدأ من القمة لينتهي الي القاعدة وانما اصبح مسارها تصاعدياً من القاعدة لينتهي الي القمة. اننا بازاء ثورة هي التي صنعت زعيمها. قال سعد زغلول: »ليس صحيحا ان هناك من وجد الأمة تقف ورائي، فالحقيقة إني أنا الذي من وقف وراءها.. ولا فضل لي إلا كوني ترجمان صدق لشعورها». لم ينتظر هذا الشعب ان تكون حريته منحة من أحد. كيف وضعت الوطنية المصرية النابضة.. امبراطورية لاتغرب عنها الشمس وصاحبة اكبر جيش في الدنيا وأعظم اسطول في العالم في قفص الاتهام أمام التاريخ؟ وكيف حدثت هذه المعجزة التي أذهلت أعتي مستعمري ذلك الزمان وأصحاب القرار في هذا الكوكب؟ قبل مائة عام، ما كاد هذا الشهر -مارس- ينتصف حتي كانت شعلة الثورة قد اضاءت كل جوانب الريف المصري من أقصي الصعيد الي شمال الدلتا.. واذا بشعب مكبل بالاغلال، مكمم الأفواه، مقيد بالسلاسل.. ينتفض فجأة ليحطم أغلاله وينقض علي محتليه ويتحول كل مواطن الي مقاتل. وتنطلق مظاهرات وتحركات الطلاب والعمال والمحامين والموظفين والنساء في كل بقعة من الاراضي المصرية لقطع المواصلات وشل مؤامرات وتهديدات المعتدين. مواطنون ومواطنات عزل من كل سلاح ومن كل سلطة في مواجهة عنيدة جعلت من بلد هاديء مسالم قلعة للحرية تطلق صوتاً كالرعد. وعندما تم اعتقال سعد زغلول وزملائه الثلاثة يوم 8 مارس 1919 واقتيادهم في طريقهم- بحراً- الي منفاهم بجزيرة مالطة.. كانت تلك هي ذاتها ساعة الصفر لقيام الثورة الشعبية. خطاب توكيل لجماعة من اعضاء الجمعية التشريعية المعطلة -وهي برلمان ذلك العهد- لكي ينهضوا بمهمة السعي الي استقلال مصر استقلالاً- كان أول خطاب تاريخي تزيله توقيعات الملايين من المصريين. حتي أصحاب الرتب والالقاب من باشاوات وبكوات مصر.. وجدوا انفسهم ينخرطون في الحركة الوطنية بحماس واستطاعوا تحرير أنفسهم من الأوضاع الطبقية المفروضة عليهم.. والسبب هو قوة الحركة الوطنية والشعبية. هنا نلمح تحركاً من تحركات الفلك الديمقراطي في مرحلة من تاريخنا كانت الديمقراطية فيها حلماً يحتاج تحقيقه الي عزم الرجال. ولذلك، نلاحظ، انه-مع الثورة- أسس طلعت حرب أول بنك مصري للمصريين. بل ان من ملاحم الثورة.. ذلك التنظيم السري الذي أعدته لحمايتها من تردد المهادنين أو المتخاذلين وقطع الطريق علي الحلول الانهزامية، ولكي تتم عملية الإحلال والتجديد بحيث اذا تم إعدام زعماء الصف الأول.. يحل محله الصف الثاني واذا تم نفي أو سجن الصف الثاني علي أيدي المحتلين يحل محله الصف الثالث لضمان استمرار المعركة الوطنية حتي النهاية.