الكتابة عن العلم أمر بالنسبة لي مشوق وجذاب، لكنه في نفس الوقت يجعلك كما الساحر الهندي يمشي علي الأشواك ويبتلع النار، ذلك أننا بنو البشر خاصمنا العلم وإن استعملنا كل نواتجه، فنحن نسير في حياتنا كما مغمض العينين، قصاري مانفعله أن ننظر إلي موضع أقدامنا علي الأرض، وقليلاً ما ننظر إلي السماء فوقنا والكون الفسيح حولنا. ولعلها ليست تجربتنا الأولي معاً فقد سبق أن كاتبتك عن الكون وميكانيكا الكم ومعامل الأنتروبيا والعلم والسياسة والسفر عبر الزمن وقوانين الحركة عند نيوتن والنسبية عند أينشتين، وإيان ولمت والنعجة دولي وعن برمجة الخلية ودارون والنشوء والارتقاء، وكلها موضوعات علمية دقيقة بسطناها ولا أحسبك تنساها، لكن المهمة هذه المرة تبدو أكثر صعوبة ذلك أننا نتحدث عن واحد من أندر عقول العلم في عالمنا المعاصر، مثل بعطائه العلمي قفزة بالعلم غير مسبوقة، ومثل بتحديه لإعاقته الفريدة قوة إرادة غير معهودة ولا منظورة. أحادثك اليوم عن ستيفن هوكنج أشهر عالم فيزياء في عصرنا الحديث بعد أينشتاين، لكنه لم يحصل علي جائزة نوبل حتي وفاته الأربعاء الماضي - يوم ميلاد أينشتين - لأنه عارض غزو العراق، وانتقد ممارسات إسرائيل الوحشية ضد الفلسطينيين ورفض أن يشارك في أي احتفالات للدولة العبرية العنصرية. إنه ستيفن هوكنج أستاذ الفيزياء النظرية الذي جلس علي كرسي الأستاذية التاريخي لكل من نيوتن وأينشتاين في كمبريدج. إنه تاريخ مختصر لمعني العبقرية الإنسانية رغم إصابته بمرض الضمور العصبي التصلبي الذي أصابه بالشلل التام، ولإرادته الحديدية فقد طورت له شركة أنتل كمبيوتر خاصا يتحكم فيه بحركة شفتيه وعينيه وبعض أصابعه. كتب أصعب وأعقد المعادلات الرياضية لأفكاره، وقدم مفاهيم جديدة للفيزياء النظرية عن نشأة الكون وخصائصه، والثقوب السوداء، والتصميم العظيم للكون والذرة والاجسام الذرية متناهية الصغر بما يصل إلي مائة مليار مليار من حجم الذرة الواحدة، وتاريخ مختصر للزمن، وقام بالمصالحة العلمية بين ميكانيكا الكم والديناميكا الحرارية ونظرية الأوتار الفائقة التناظر، وكان شاغله الوصول لفهم أعمق عن نظرية الإنفجار الكبير الذي يقول العلماء بأنه أصل نشأة الكون ولحظة ولادته، ثم مصيره بعد ذلك، ودرس هل الكون يتمدد أو ينكمش، وهل هو محدد أم لانهائي؟ وماهي أبعاده التي حددها أينشتين في أبعاد أربعة - ثلاثة للمكان والرابع للزمن - ومن هنا جاء مفهوم الزمكان في النظرية النسبية لأينشتين، أي ارتباط المكان بالزمان في إحداثيات محددة يمكن قياسها بالمعادلات الرياضية. لكن ستيفن هوكنج قال بتعدد الأكوان حولنا فيما لايقل عن عشرة أس خمسمائة، أي عشرة أمامها خمسمائة صفر، وياله من عبقري مجنون. لكنه فسر ذلك من خلال تصوره لجزيئات البوزون والكوارك، ثم الأقطار المتناهية التناظر متناهية الصغر التي تهتز فتصنع جاذبية الذرة، ومعاملات إشعاعها، وقدرتها النووية، وخصائصها الكهرومغناطيسية، وكذلك قدرتها علي الجاذبية، وهنا توصل لتوحيد القوي والطاقات مابين الأجرام هائلة الحجم كالمجرات والكواكب والنجوم وبين المواد المكونة من جزيئات وذرات وماتحتها من جسيمات متناهية الصغر إلكترونات، وبروتونات، وبوزونات، وكواركات، أقطار فائقة التناظر كما الأقطار الليفية علي قشرة جوز الهند وكان ذلك كتابه الشهير »الكون في قشرة جوز» الذي ترجمه صديقنا الكبير رحمه الله د. مصطفي فهمي. وحتي لاتتوه سيادتك مني، دعني أوضح:- من أكثر من 13 مليار سنة كان الكون كتلة واحدة حارة شديدة الكثافة تمددت فبردت وحدث الانفجار العظيم وتكونت المجرات والنجوم، وهذه هي نظرية البنج بانج والانفجار الكبير. أما الثقوب السوداءفهي منطقة في الفضاء ذات كثافة مهولة تفوق غالباً مليون كتلة شمسية، يعرف الثقب الأسود في النسبيةلأينشتين بصورة أدق علي أنه منطقة من الزمكان تمنع فيها جاذبيته كل شيء من الإفلات بما في ذلك الضوء. ولذلك قالوا أن مثلث برمودا في المحيط الأطلسي والذي يبتلع السفن والطائرات يقع تحت ثقب أسود.كانت نظريات أينشتاين ومجايليه من العلماء الأفذاذ ونظرياتهم تفسر القوي الكهرومغناطيسية وقوي الذرة وقوي الإشعاع ولم تكن تفسر قوي الجاذبية، ولا الثقوب السوداء، وجاء ستيفن هوكنج ليعيد ترميم هذه النظريات ويفسر ما استغلق منها علي التفسير العلمي ويؤكده بمعادلاته الرياضية المحكمة. تصوروا رجلاً عاش ستة وسبعين عاماً وهو مقعد مشلول غير قادر علي الحركة منذ كان عمره واحد وعشرين عاماً أنجز كل ذلك العلم، لذلك كان لابد أن أكاتبك عنه وعن حكايته التي تصح أن تكون أسطورة علمية، للأسف تمشي علي كرسي متحرك، لكنها عبقرية تجاوزت الآفاق بالعلم والفكر والمعرفة. إنه ستيفن هوكنج، ليس رجل فرد، لعله تاريخ موجز لمعني الإبداع الإنساني والإرادة والعبقرية.