شمس الخريف الواهنة بيضاء مقمرة.. نسيم الصباح البكر يزف رائحة الأشجار بأغصانها المدغلة المغسولة بفعل أمطار المساء.. هاهو الباب الخشبي الصغير الخاص بالتلاميذ.. علي أعتاب الباب المسحور البازغ من حدوتة بياض الثلج والأقزام السبعة امرأة تفترش الأديم بباقات الورد البلدي والقرنفل بلون العاج والسحاب.. الخوخ والياقوت .. زهوة الألوان ورحيق العطر المُسكر يجعلني أمد يدي الصغيرة تحاكي يد عقلة الأصبع لأحظي بصحبة الأزهار الخلابة.. وأتعجب لماذا تلاشت رائحة الورد البلدي مع مرور الزمن؟! تُراها اندثرت مثل كل شيء جميل زين حياتنا نحن أهل مصر.. فللورد أيضا لغته أي عطره وليس ألوانه فحسب وإلا تكون الأزهار بلاستيكية منزوعة الروح حتي الورود صارت صماء!! وأعود إلي مدرستي ليسيه الحرية.. باب اللوق شارع الشيخ ريحان، هاهو عم شحاتة يفتح الباب ليتدافع شلال من الأجساد الصغيرة المتلاحمة تشتعل بفعل حماسة دافقة.. جامحة وقدرة جبارة علي الحركة والصراخ الغريزي، الهيستيري دون هدف.. طاقاتهم تفوق قاماتهم وكأن عم شحاتة صاحب الوجه المصري الطيب المنحوت منذ آلاف الأعوام بحواجبه السوداء الكثيفة وكأنها مرسومة بألوان الشمع ودهشته اليومية المتجددة يفتح لنا باب الدنيا.. والحرية. تحيا الجمهورية العربية المتحدة، تحيا الجمهورية العربية المتحدة! أين ذهب اسم مصر؟!! سألت ناظرة المدرسة وأنا في الفناء الفسيح بعد طابور الصباح.. سألت أمي، سألت بائع العسلية وبائعة الأزهار ولم أحظ سوي بتنهيدة تنفطر لها الأفئدة بالرغم من أعوامي الشحيحة إلا أن مصر تبدو منقوشة حتي في اللاوعي، الضمير الجمعي في الجينات وكل خلية.. مسافرة في دمي مسكينة مصر يتلاشي اسمها تارة باسم القومية العربية وتارة باسم الخلافة.. لتصبح ولاية ولم نسمع عبر التاريخ الإنساني المديد أن نُزع اسم وطن! والقومية العربية قيمة نبيلة بشرط الحفاظ علي كل مكونات الوطن العظيمة فما أجمل اسم مصر فالمجد لمصر هي حمالة الأسية مهددة بفعل وسوسة الأحلام الخطرة مرة لتحويلها إلي دويلة ومرة إلي ولاية وهذا لن يكون. وأعود إلي ليسيه الحرية ودنيا الطفولة المرصعة بالألوان فهاهي ألوان الشمع والزيت والأقلام، الطباشير من الوردي، السماوي، الأصفر والأخضر الرائق، الحبر الأحمر والأزرق ثم بطاقات التفوق المبهجة أو »البونبوان» خيوط الأنوال بدرجاتها الزاهية، قصص وحواديت الأطفال المصورة فها هي سندريلا الشقراء وثوبها الذي حاكته الساحرات الطيبات بألوان الشمس والقمر والنجوم الفضية السابحة في الزرقة اللانهائية، الطائرات الورقية الملونة فوق الأسطح تحلق مزهوة بخفتها. ورق القص واللزق، »الاسكوبيدو» شرائط الشعر من الساتان والمخمل الأرجواني والقرمزي والحلي (التوك) علي شكل هلال ونجوم وشفاه مرصعة بالماس كل شيء يضوي، ويلمع.. الطفولة والعشق هما مدن الألوان مملكة اللون، الألق والبريق، وكلما تمادي بنا الزمن تضاءلت مساحة اللون، ربما في الطفولة مطلوب لفت وشحذ الانتباه من خلال هذا الكم الهائل من البهجة وكأن الطفولة هي حفلة مزمنة، حتي تجليد الكتب والكراسات أذكر الورق الشفاف بلون شربات الورد وآخر بلون الشاي باللبن أستجدي الآن خزائن ذاكرتي، أرمم الطبقات الزمنية، استدعي ذاكرة الحواس علي طريقة بروست من خلال مذاق حلوي المادلين مع فنجان الشاي في »البحث عن الزمن المفقود» وبودلير حيث الحياة بأسرها قد تكون حبيسة قارورة عطر تكتنز بالذكريات النفيسة المعتقة.. وأتعجب من خفة ظل المصريين فالعسلية لها اسم نابوت الغفير وبالفرنسية »كاكا شينوا»! سكر النبات وغزل البنات بالفرنسية اسمه لحية باربا! أذكر أوان الفسحة.. الفناء شديد النظافة مثل كل شيء آنذاك وهاهو الرجل الطاعن في السن القادم من زمن الأساطير والخوارق أرقبه حاملا قفة كبيرة من الخوص يلتقط بدأب عجيب القمامة وكل بقايا اللعب الجامح للأطفال، أرقبه في عزلتي الاختيارية فلم أكن مولعة باللهو كنت أضع أساور من الخرز الملون أو أقرأ الحواديت المبسطة والمنقحة من ألف ليلة، علاء الدين والمصباح السحري، كانت تبهرني »روبنسون كروز» لدانييل ديفو وكيف لهذا المتوحد العائش في العزلة أن يظفر بالسعادة.. كيف لم أتحدث أبدا مع هذا الرجل؟ ذي الانحناءة المتشح بالرهبة والصبر، كنت أتأمل صديقاتي يلعبن (الأولي) ويخرجن طوبة من الكيس النايلون يحافظن عليها توضع في حقيبة المدرسة بكل حرص لم تكن تستهويني وبينما أنا عائدة إلي المنزل في أتوبيس المدرسة تبدأ برودة العصر تتسلل بنعومة أرتدي الجاكيت الكحلي فوق اليونيفورم بمكعباته الصغيرة باللون الروز والفضي المصنوع في هانو كان أغلب الأساتذة من فرنسا يؤدون التجنيد، أستمتع بنشوة الخريف وأتساءل أي أنواع المربي سأجد اليوم، فكان هناك يوم لمربي الورد وآخر للارينج، وأيضا البلح والوشنة فكان البلح الأحمر القاني بداخله حبة لوز وقرنفل غارق في الشربات، وهناك البلح علي شكل بوريه بالزبد.. وأذكر أن اليوم المخصص لمربي الورد يكون المنزل أقرب إلي بستان أو حديقة بديعة مكانها في الجنة، فشذي الورد يجتاح المنزل ليصيبك بالثمالة أما مربي اللارينج لم أكن أحبها لمرارتها ولكن كنت مولعة بلونها وكأنها مصنوعة من خيوط الشمس المذهبة وكانت جدتي تتذوقها ومعها دائما كوب من الماء المثلج الممزوج بالمزهر أو الماورد.. وهكذا فبعد سماع مسلسل »نحن لانزرع الشوك» ليوسف السباعي وشادية، أو صابرين، لشادية أيضا في أتوبيس المدرسة أكون قد وصلت إلي المنزل أعبر الأوفيس لأجد نفسي في المطبخ تداهمني رائحة الفانيليا المنبعثة من قوالب الكيك والضوء الأبيض المروض المسكوب من النافذة والأسطي حسن الطباخ هو أقرب إلي عمدة فر من دواره وجاء ليستقر في هذا المكان ليصبح مملكته.. أذكره بكل الشوق والإعجاب بموهبته في الطهي وطيبة القلب وخفة الظل المصرية الصميمة، يرتد بي الزمن أتأمله وهو علي وشك الذهاب بعد صلاة العشاء يرتدي كما هائلا من الخواتم الفضية المرصعة بالأحجار ذات الدلالات والمحفظة المطعمة بالفضة وهذا العطر النفاذ السحري المعبق ببركة الحسين والسيدة، والجلباب الصوف الإنجليزي أسطي حسن تطربني حواديته أستمع له وأنا مسحورة في منطقة وسطي بين الحلم والواقع، الخيال والحقيقة، أما في رمضان فكان يحلو لي ترك أسرتي في غرفة الطعام والإفطار مع الأسطي حسن وألماظة مربيتي، كان الراديو يبث ألف ليلة وليلة بصوت زوزو نبيل الخلاب وحكايات طاهر أبوفاشا أطرب لما ترويه شهرزاد درة النساء عن حمال الأسية والأمير المسحور نصفه إنسان ونصفه حجر صوان.. آه من هؤلاء من هم نصفهم حجر صوان يعربدون، يخربون يقترفون الشرور هنا وهناك وتتهادي موسيقي شهرزاد لرمسكي كورسا كوف وكأني أحلق في قلب السحب أمتطي البساط السحري والطاووس الطائر وأهبط علي جبل قاف لأغوص في مغارة علي بابا حيث بريق اللؤلؤ والمرجان الماسي، الزمرد والياقوت وبينما أهيم في تلك العوالم الخفية، البهية أتأمل سلم السرفيس أو سلم الخدم الأسود، الأفعواني في البناية المقابلة كم هو كئيب خطير وشرير وأتساءل بالرغم من أعوامي التي لاتذكر لم يصنع سلم السرفيس بهذا الكم من القبح والمجازفة بحياة هؤلاء البشر هل لأنهم بسطاء وبؤساء؟ آه من القسوة والغلظة عندما تتحول إلي ثوابت.. العشق.. لحظات الوصال هي القرين لمملكة الطفولة.. مدن الألوان والارتقاء بالمشاعر فكلما غادرنا مدن العشق والطفولة غابت تلك اللوحة الملونة المبهجة ولتجنح الحياة إلي الرمادي.. الأسود والأبيض لكل ماهو فاتر، باهت منزوع الحيوية والنشوة فالطفولة والعشق صنوان ففي قلب الحب طفولة اندفاع، نزق غواية، حمرة الوجنات وفي الطفولة أيضا عشق للدنيا، اندفاع، إقبال وشغف، ودهشة ولهفة تقول أحلام مستغانمي: »أجمل لحظة في الحب هي قبل الاعتراف به، كيف تجعل ذلك الارتباك الأول يطول؟ تلك الحالة من الدوران التي يتغير فيها نبضك وعمرك أكثر من مرة في لحظة واحدة.. وأنت علي مشارف كلمة واحدة».