البحر الليلي يزف أكسيره السحري المشبع باليود والملح.. الزرقة المهولة تتوجها الأمواج الشهباء الفائرة تومض فتضيء قلب الليل.. الأمواج تتدافع.. تتساحق راقصة، تتقن الوشوشة.. أقرب إلي تنهيدة تسكر الحواس وتداوي الروح المنهكة.. أرهقها الزمن.. الشوق.. العشق والغموض.. إسكندرية الأيام الخوالي، فمن ينال منه الحنين.. النوستالچيا يستدعي الإسكندرية.. مدينة البهجة.. هي حفلة متواصلة، أشبه بعيد متكرر، مدينة خرافية شيدتها الأحلام الثملة بالجمال، المتعة والفرح.. الإسكندرية كانت عاصمة الدنيا.. هنا تنهل من زهوة الألوان الشماسي ذات التقليمة الزاعقة وذات الدوائر المبهجة.. ترصع الشواطئ.. ريشة محمود سعيد تخلد بنات بحري.. أنغام سيد درويش.. تستوحي الخلود من موج البحر الجامح.. القصور، السرايات والفيلات البديعة تكتنز التاريخ والمجد الغارب يتم دكها بدأب وانتظام، التخريب والتدمير لبقايا البقايا علي قدم وساق.. الآن ألوذ بالمدينة البحرية التي كانت طفولتي موزعة بين بيانكي.. فندق البوريفاچ، المنتزه ونادي السيارات.. هاهو رونق الأمكنة يداهمني التريانون، أتينيوس، زفريون، ديليس، باسترودس، سان ستيفانو، سانتا لوتشيا سيسيل، فلوكيجر.. تلاشت روح الأمكنة وألقها، ذابت في العدم مثلما تلاشت قصور الرمال التي شيدتها وأنا في غفوة الطفولة الهانئة.. اللاهية.. كلنا شيدنا القصور الفانية ليلتهمها السراب. »البحر بيضحك ليه«.. البحر لم يعد يضحك! حاصرته البنايات المتعملقة المائلة، الفاسدة، ناطحات السحاب كبست علي أنفاسه الشجية، اكفهر وجه البحر وكظم غضبه، حاصره الحجر الصوان والإسمنت، طُمس ثغره الضاحك الفاتن، غابت زرقته تعكرت سحنته الخلابة تلقي في أحشائه النفيسة النفايات.. كان من المعروف لماذا يضحك البحر أين ذهبت تلك البيوت ذات الدور الواحد والستائر يتجاذبها الهواء البحري.. أما اليوم فالحال تبدل فإسكندرية كفافيس، داريل، إحسان عبدالقدوس، تئن وتتحلل. إسكندرية زمان تسمع فيها كل لغات الأرض، تأنس لرحابة الفكر والأضواء المبهرة للتنوير، التعددية، إسكندرية مصرية.. يونانية.. إيطالية.. شامية.. ملطية.. أرمينية.. سويسرية.. فرنسية.. إنجليزية.. كوزموبوليتانية لا أحادية.. بازغة من العصور الوسطي العجمي.. بيانكي طفولتي الأولي.. الستينيات، أحاول لملمة أشلاء البارحة، فالأمس المدبر صار يحاكي لوحات التأثيريين أضمده، أرممه بيانكي صديق أسرتي، من مالطا كان، جاء ذات يوم ليشيد جنة مصغرة حملت اسمه، الحياة بدائية.. الحياة حلوة.. البحر والسماء.. الأمواج بيضاء.. ناصعة تحاكي الماس والسحب بيضاء شاهقة، وبينهما الرمال ذهبية ناعمة، أوان القيلولة.. بينما ينام الكبار استعدادا لاحتفالات المساء أتسلل مع صباح ابنة البدوي اسمه سكران أذكرها بشعرها الجامح نحاسي.. أصفر استمد جفافه من ملوحة البحر وجفاف الصحراء، نلهو وسط أعواد البوص الشقراء المنتصبة تحاكي سيقان الشقراوات من النساء نرقب بخبث الطفولة تحركات الغجريات حاملات القفف الحبلي بالودع يقرأن الطالع ويهتكن المجهول.. الماء نحصل عليه من البئر بواسطة الترومبة تلك الرائحة لن أنساها ما حييت تتجمل بفعل أنها صارت ذكري.. بعد العصاري وقبيل المغيب أداوي بشرتي الملتهبة بفعل شمس العجمي الحارقة بالكريم الذي كلما تسللت رائحته إلي حواسي تذكرت تلك الأيام القابعة في جنتي الحميمة المجوهرة فلا أقوي من الذكري الكامنة في زجاجة عطر أو مذاق ما كما ذكر بودلير وبروست نذهب إلي ڤيلا ڤيڤيان بيانكي المجاورة.. مساحة شاسعة من الجازون خضرته المنعشة تضاهي الزمرد، نرتدي البرانس الزاهية المنقطة والندي يكسو أجسادنا الصغيرة، الطازجة والسمرة الخوخية تشرق علي بشرته، الحياة حلوة، كل شيء نظيف، يلمع، الدنيا تبدو أشبه بكأس وردية الفوران، «أوفوديا صادحة بالغواية البحرية»، الاستعداد لضبط شاشة السينما وحلوي الباڤارواز بموس الفراولة والكريمة وقطع الفاكهة المجففة تحاكي الزبرجد والياقوت وأصداء البحر تتحول بين الضجيج والصمت، الصخب والسكون، الثورة والغفوة، الخوف والأمل.. أعشق أفلام الأبيض والأسود ترصد الإسكندرية في ذروة ملاحتها، نظافتها وشياكتها، «لقاء في الغروب» لمريم فخر الدين ورشدي أباظة وكل الشواطئ تتسم بالرقي، نظرات الناس نظيفة والضمير الجمعي كان منزوع الابتذال، المايوه يعلوه البرنس نرتديه لعبور الشارع إلي الشاطئ بدون تحرش، بدون نظرات ناضحة بالقبح والشر فالحجاب والنقاب كانا في الأعماق، الضمير والتوحد مع الآخر فهل كان ذراع أو مايوه مريم فخر الدين يحض علي الشهوة؟ البلد كله يكاد يكون أسرة واحدة، سبيكة حضارية، استثنائية.. هاهو فيلم «الزوجة العذراء»، «من غير ميعاد»، «ليلة الزفاف»، «البنات والصيف»، والقائمة شاهقة وفندق البوريڤاچ المكان المفضل للتصوير، في لوران كان.. صاحبه أنيس سلامة جعل منه نوعا من الفردوس المنشود علي الأرض، لا أحد ينسي هذا المكان وهذا الزمان، فلا الزمان بقي ولا المكان! البوريڤاچ بمدخله الأسطوري حيث الزلعتين الشهيرتين علي أعتاب بوابته، فتجد المطعم حيث الطاولات تكسوها المفارش البيضاء الناصعة يناوشها هواء البحر المسكر بكل طراوته، أعوامي الشحيحة اكتنزت الإفطار مع نسيم الشروق البحري مربي المشمش بلون خيوط الشمس الذهبية وبجانبها الشهد في الأواني الفضية.. البراقة.. والزبد علي شكل قواقع تحاصرها مكعبات الثلج كي لا تتلاشي في لهيب قيظ الصيف اللافح، ثم الحديقة الشهيرة حيث الأسماك الملونة بلون المرجان والتوركواز، تجد صفوة مصر المخملية النساء صارخات الجمال، الأثواب المزهرة ذات الفتحات السخية دون ابتذال والأذرع البضة، الرخامية تحاكي أعمدة معابد الإغريق تذكرني دوما بمدخل بناية لوبون.. غرف البوريڤاچ أثاثها شبه لوحات هوبر بسيطة، روستيك ومحملة برحيق الزمن من خلالها، كان الغزل بين عبدالحليم وفاتن حمامة في موعد غرام وكانت الجريمة في حبي الوحيد بين نادية لطفي وكمال الشناوي وكانت الرغبة والغرام المفاجئ بين شادية ورشدي أباظة «الزوجة 13» وكان وكان وكان ثم لم يعد هناك شيء.. أذكر جدتي عندما كانت تقابل مدام ويصا بدت لي سيدة تمادي بها العمر فأكسبها رهبة، ترتدي دوما الأسود وتتزين بلألئ حزينة رمادية وسوداء، تبدو كأنها خارج الزمن مع جدتي علي الشاطئ أتأمل الأمواج الفائرة، المتوحشة.. بالنسبة لأعوامي القليلة كأفاعٍ تتلوي وتتدافع أراها تهاجم بائعي الحلوي الصيفية الفريسكا أشبه بصندوق الدنيا أرجلهم غائصة في رغوة الماء المزبد، لا أنسي مذاق تلك الرقائق الرقيقة، الهشة الذهبية حلاوتها لا تفارق شفتي، آيس كريم صودا. مع جدتي في نادي السيارات الفانيليا المغموسة في شربات الورد الزاعق يذوب في الصودا اللاذعة بينما يعلو صوت الصبية وصراخهم العابث المختلط برذاذ الماء واللهفة الشرهة للاستمتاع، أتقن التنصت علي حديث جدتي وصديقاتها عن عالم الكبار أحاول الولوج إلي طبقات من الفهم تتجاوزني الطاولة المجاورة تجلس زوجة أحمد مظهر هي القرين الآدمي للدمية الشقراء الفاتنة باربي، جدتي تنظم البرنامج اليومي الغداء في زفريون حيث البيوت ذات الألوان الباستيل تضاهي الكارت البوستال، المطعم يطوقه البحر والصخور يزينها هذا السائل اللزج تحاكي خضرته الزمرد، العشاء سنتا لوتشيا، أما القيلولة لن ننام.. فلا أحد ينام في الإسكندرية.. نذهب إلي «هانو» سوف أصاب بدوار ولا دوار الڤالس عند رؤية التيجان المرصعة بالماس أريد اقتناء واحد لم لا فربما أكون بياض الثلج، الجميلة النائمة، شهر زاد أو شجرة الدر وسوف أملأ هانو بصراخي حتي تستجيب جدتي شديدة الصرامة وأريد تلك الغلالات الملونة من الكريب.. چورچيت والموسلين الوردي والليلاه فلا أحد يمنعني من أن أصبح أميرة في هذه الليلة من شرفة البوريڤاچ ذات الدرابزين المشبع بالرطوبة وأنفاس البحر أنتظر نسيم الشروق البحري المجدل بالأكوامرين والفضة.. يقول نجيب محفوظ في السمان والخريف «هاهو البحر يترامي في عظمة كونية حتي يغوص في الأفق ولكنه يستمد من حلم أكتوبر حكمة ودماثة.. وجدران الحجرات محلاة بصورة الأسرة اليونانية صاحبة الشقة وكلما نظرت إلي الخارج رأيت الوجوه اليونانية في الشرفات والنوافذ، غريبا في موطن غرباء، وتلك ميزة الإبراهيمية، والمقهي المرصع طوارة بالأشجار وسوق الخضار بألوانه النضرة والحوانيت الأنيقة تحفل بالوجوه اليونانية.. لغتهم الأجنبية تخيل إليك أنك هاجرت وتنهل من الغربة حتي تسكر وهؤلاء الأجانب الذين طالما أسأت بهم الظن أنت اليوم تحبهم أكثر من مواطنيك إذ إن جميعكم غرباء في بلد غريب».