من المدهش .. أن ترد علي مكالمة تليفونية تأتيك عبر رقم غير معلوم لك؛ لتقول فور سماع كلمة »آلو»: أهلاً يا ( فلان )؛ برغم أن هذا ال ( فلان ) لم تسمع صوته منذ أكثرمن عشر سنوات ! ولا عجب في هذا .. لأن »بصمة الصوت» مختزنة في العقل الباطن وموشومة علي جدران الذاكرة، وموظف الأرشيف النشط داخل وعي اللاوعي؛ يأتي إليك بملف »البصمة» أمامك صوتًا وصورة ورائحة .. ليمنحك الرد الفوري للترحيب بمن علي الطرف الآخر . والجملة الموسيقية تحمل البصمة نفسها وتنطبع علي حائط ذاكرتك، لأنها تحمل في طيات إيقاعها »الجينات اللحنية» الخاصة بمبدعها ومكتشفها وصانعها، فللوهلة الأولي وأنت تستمع إلي كوكب الشرق بموسيقا مقدمة أغنية »مصر تتحدث عن نفسها»، أو قصيدة »النيل» أو » ولد الهدي»، فإنك تعرف من فورك إنه إبداع الموسيقار العظيم/رياض السنباطي. وتستمع إلي »النهر الخالد» أو » قالت» فتجد روحك في تحليق رائع في سماوات موسيقار الأجيال/محمد عبد الوهاب .. وتستمع إلي موسيقا »ضربات القدر» فتعرف انك في حضرة الموسيقار الألماني العظيم »بيتهوفن» الذي وضع أعظم وأروع سيمفونياته التي صنعت له الخلود بعد إصابته بالصمم، لأنه استمع إلي موسيقاه أولاً داخل روحه .. قبل أذنيه !! وفي عصرنا هذا .. تجد المفاجأة من »عبده فجلة» الملحن ذائع الصيت في الملاهي الليلية، بأنه »لطش» مقدمة موسيقية شهيرة لموسيقارعملاق بعد مسخها ببعض التغييرات الهلامية بتغييرالآلات المستخدمة أو الإيقاعات، كي تتمايل علي أنغامها أفعوانات غريبة ماأنزل الله بها من سلطان ! ودون أدني إشارة إلي صاحبها الأصلي الذي تم السطوعلي إبداعه جهارًا نهارًا، والعجيب أن تقرأ أعمدة المدح في هذا الملحن العبقري الذي اخترع هذه الجملة الفذة، وكيف انهالت آلاف الدولارات تحت أقدام اللائي تراقصن علي أنغام هذا اللحن الفذ، في الوقت الذي ربما يعاني فيه صاحب اللحن الأصلي من احتياجه لهذه الدولارات للصرف علي إبداعاته الجادة والحقيقية . ولعلي هنا أركز علي السرقات الفنية في مجال الموسيقا والطرب والغناء ، فهناك العديد من السرقات العلمية والأدبية ، التي استشرت وتفشت في الآونة الأخيرة ولكن سيكون لهذا حديثٌ آخر باستفاضة في المنظومة العلمية والأكاديمية، لأن قوانين الحقوق والملكية الفكرية، لم تعُد تصلح لهذا الزمان الذي تلفح بعباءة الفساد دون وازع من ضميرأو مشاعر مرهفة، تحفظ لكل مبدع أصيل حق انتساب أعماله إليه ، والضرب بيد من حديد علي كل من يسطو علي إبداعات غيره . فعندما شدَت المطربة العظيمة/فيروز بأغنياتها الرائعة ، لم يستنكف »الرحبانية» اعترافهم بأنهم اقتبسوا من روح »التراتيل الكنسية» القديمة معظم ألحانهم التي اشتهروا بها، ولكنهم قاموا بتطويرها بالآلات العصرية بما يتناسب وطبيعة العصر ومقتضياته، فكان لهم كل التعظيم والإكبارمن جموع المستمعين في الوطن العربي لهذا الاعتراف الشجاع، وروعة الاقتباس المحمود من التراث الإنساني . وعلي الساحة المصرية، كان هناك الموسيقار الكبير/محمد الموجي .. الذي اعترف بكل الثقة في ذاته وفي نقاء إبداعاته، بأنه عندما تصدي لوضع ألحان لكوكب الشرق السيدة/أم كلثوم .. فإنه قال بمنتهي الشجاعة : إنه »تسنبط» قبل أن يشرُع في وضع هذه الألحان، وبهذا يعترف ويوثق بكلماته أنه تأُثر بمدرسة »السنباطي» في التلحين، ولم يجد عيبًا في هذا .. بل رأي أن هذا هو قمة الجمال الإنساني الرائع . ولا مانع من التأثير والتأُثر في المجال الفني والموسيقا علي وجه التحديد فالموسيقا هي شعر الوجدان، وهي لغة تُكتب وتُقرأ وتُسمع، وتُكتب من اليسار إلي اليمين علي السلم الموسيقي الذي يتكون من خمسة أسطر بينها أربع مسافات ولها حروفها الخاصة بها مثل ( الألف باء) في اللغة العربية، ولكنها تحمل في داخلها نغمة الإيقاع : دو ري مي فا صول لا سي، ومن هذه الحروف السبعة تتكون الكلمة الموسيقية ( مازورة ).. والكلمة الموسيقية تكتب بين خطين رأسيين.. ومن الكلمات تتكون الجمل الموسيقية التي تكون عادة من ثماني موازير أو مضاعفات هذا العدد.. ومن الجمل الموسيقية تتألف المصنفات الموسيقية والقوالب والصيغ الغنائية أو الآلية. وتتكون الموسيقا من أربعة عناصر هي: الإيقاع اللحن أو الميلودية الهارمونية أو التوافق الموسيقي الطابع الصوتي. والإيقاع كما يقول أفلاطون تستطيع أن تراه في تحليق الطيور، وفي نبض العروق، وخطوات الرقص، ومقاطع الكلام والعُرف السائد بين أهل الفن .. أنه مسموح بالتأثر في حدود مايسمَّي باقتباس »مازورة» أو »مازورتين» من المبدع الأصلي، بحيث إذا تم التجاوز، فإنه يكون بهذا قد تخطي حاجز الاقتباس إلي السرقة الصريحة من العمل الفني الأصلي. وهذا هو مايفعله من نضب معين إبداعاتهم في هذا الزمان، فاستمعنا إلي موسيقانا بشكلٍ قميء من المسخ، فبدت كأنها مخلوقات لاتمت لواقعنا الأًصلي بأية صلة ! إنني وأنا ابنة هذا الحقل الموسيقي بحكم التربية والنشأة والعمل في الصرح الفني أهيب بكل المبدعين الحقيقيين ، أن يحافظوا علي تراثنا المصري الأصيل، بالتمسك بحقوق الملكية الفكرية، والحض علي سن القوانين التي تحفظ للمبدع الأصيل حقوقه في نتاج عقله بموسيقاه الثرية . وحينئذٍ .. سيتواري خجلاً كل مدعٍ للفن ، ولتبقي علي مسرح الساحة الفنية، كل الأصالة التي ترتدي ثوب المعاصرة لإثراء الوجدان لكل مجتمعنا المصري والعربي .