في قصر »أورساك هاز» المنيف، الذي يطل علي نهر »الدانوب» أطول أنهار أوروبا، يلتقي الرئيس عبدالفتاح السيسي اليوم للمرة الثالثة في غضون عامين، مع رئيس الوزراء المجري ڤيكتور أوربان. هذه هي الزيارة الثانية للرئيس السيسي إلي بودابست. وبين الزيارتين، حل رئيس وزراء المجر ضيفا علي مصر والرئيس منذ 13 شهراً. بين البلدين، علاقات قديمة عمرها 80 سنة، لكنها في السنوات الأخيرة، اكتسبت زخماً هائلاً، دشن فصلا جديداً في التعاون المصري المجري.. له ما يبرره. وبين الزعيمين، صداقة وطيدة، أساسها تقدير وعرفان سبقا اللقاء الأول.. ولهما ما يبررهما! كلمة السر.. في التعاون الأرحب بين البلدين، وفي الصداقة الشخصية بين الرجلين.. هي: »الثالث من يوليو». وللمفارقة.. أن لقاءهما الثالث يحل في ذكري هذا اليوم. • منذ 4 سنوات بالضبط، كان رئيس وزراء المجر ڤيكتور أوربان يتابع علي شاشة التليفزيون بيان وزير الدفاع المصري الفريق أول عبدالفتاح السيسي، ثم نظر إلي معاونيه وقال: هل سمعتم ما قاله الرجل؟... لقد أنقذ بلاده من مصير مظلم. بعدها بدقائق.. أصدر أوربان بياناً يعلن تأييد بلاده لإرادة الشعب المصري، لتكون المجر هي أول دولة في أوروبا تعترف بثورة 30 يونيو. مضي أحد عشر شهراً.. والتقي الرجلان لأول مرة يوم 8 يونيو عام 2015 خلال زيارة دولة قام بها السيسي إلي بودابست، وهي أرقي أشكال زيارات قادة الدول. كان يوم اللقاء يوافق مرور عام علي تولي السيسي منصب رئيس الجمهورية. في هذا اليوم.. ظل أوربان ملازما السيسي 6 ساعات كاملة، وفي أعقاب جولات مطولة من المباحثات، رافقه إلي منتدي رجال الأعمال المصريين والمجريين المنعقد بأحد فنادق بودابست. وهناك.. ارتجل أوربان كلمة أمام الحاضرين في المنتدي قال فيها: »فكروا ماذا لو لم يكن هناك هذا الجيش في مصر؟.. ماذا لو لم يكن هناك رجل شجاع هو السيسي؟.. ماذا كان سيحصل لو لم يأت السيسي من بعد مرسي؟.. ماذا لو عمت الفوضي العالم العربي؟.. كيف سيصير حال أوروبا؟». ثم أضاف: إن عبارة »ماذا لو» لا نتعامل بها في السياسة.. لكن تلك الأسئلة تحتم علينا التفكير لتقييم ما جري في مصر. إن هذا الرجل أنقذ بلاده، وتحمل المسئولية، واتخذ أصعب القرارات لتحقيق الاستقرار في مصر». بدا الخجل علي الرئيس السيسي من عبارات الإطراء التي سمعها من أوربان في العلن بعدما سمعها منه في المباحثات المغلقة.. فقال له: »المرة القادمة أرجو أن أسبقك في الحديث». وفي ختام اللقاء الأول بين السيسي وأوربان.. قال رئيس الوزراء المجري للرئيس: »أود أن أقول شيئا لكم، ليس بنصيحة، فأنا أصغر منك سنا ودرجة، وبلدي دولة صغيرة لا يتعدي سكانها نصف سكان القاهرة، لقد حصلنا علي نصائح كثيرة من الخارج، ولو اتبعناها لما حدث نمو وما تحسن اقتصادنا، ولو لم نبحث عن طريقنا بأنفسنا لما كنا حققنا شيئا. إنني أثق أن مصر لها مستقبل باهر إذا مضت علي طريقها الذي اختطته لنفسها، وأعدكم أنكم ستجدون في المجر أصدقاء وشركاء حقيقيين».
بعد عام جري اللقاء الثاني بين الزعيمين.. جاء ڤيكتور أوربان إلي القاهرة بدعوة من الرئيس السيسي وكان ذلك في أول يونيو من العام الماضي. في هذه الزيارة، وقع البلدان 5 مذكرات تفاهم في مجالات النقل والطيران والتعاون الإعلامي والتعاون الاقتصادي والتعاون العسكري. وتركزت مباحثات السيسي وأوربان بجانب التعاون بين البلدين، علي قضيتي الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وعلي أزمات الشرق الأوسط وتأثيراتها علي أوروبا.. وانصب الحديث وقتها علي الوضع في ليبيا، وأبدي أوربان اتفاقه مع رؤية السيسي الداعية إلي ايجاد حكومة موحدة ووقف الدعم المادي والعسكري للجماعات المتطرفة ودعم الجيش الليبي. وعبر رئيس الوزراء المجري عن سعادته بالمشروعات القومية الجديدة في مصر.. وقال: »إننا بلد لا يملك تاريخا استعماريا، ولا يعيش علي حساب دول أخري، ولن يقوم بمشروع في مصر لا يتناسب مع التطلعات المصرية» وأضاف: »إن نجاح مصر ورئيسها يصب في مصلحة المجر وأوروبا. وعلاقات البلدين ممتدة منذ 70 عاماً ولم تشبها شائبة».
مساء أمس.. حل الرئيس السيسي ضيفاً علي رئيس الوزراء المجري للمرة الثانية. واليوم يلتقي الرجلان في اللقاء الثالث بينهما خلال 25 شهراً. نصف عمر أوربان الذي يناهز 56 عاماً أمضاه في قلب الحياة السياسية المجرية. في سن الثالثة والثلاثين، فاز حزبه »الحزب القومي المحافظ» بأغلبية مقاعد البرلمان، وصار رئيساً للوزراء عام 1998، وخسر الانتخابات بعد أربع سنوات، ليظل زعيما للمعارضة مدة ثماني سنوات. وفي عام 2010 فاز حزبه بثلثي المقاعد، ليعود رئيساً للوزراء، ثم حقق في انتخابات عام 2014 فوزاً كاسحاً وحصد أكثر من ثلثي المقاعد بعد أن حقق في الدورة السابقة معدلات نمو لبلاده كانت هي الأعلي في أوروبا. لا يعد أوربان من الزعماء ذوي الشعبية في صحف غرب أوروبا، لأكثر من سبب، أولها اتجاهاته المحافظة تجاه الاتحاد الأوروبي الذي تتمتع بلاده بعضويته لكنها خارج منطقة اليورو وتحتفظ بعملتها الوطنية، وثانيها علاقاته الوثيقة مع روسيا، وثالثها موقفه المتشدد من قضية اللاجئين، ورابعها نسب التأييد الشعبي العالية التي يحققها في الانتخابات والتي لا تعرفها الديمقراطيات الأوروبية الغربية، إلي حد وصف النظام في المجر بأنه »ديمقراطية غير ليبرالية»! وفي مبارزة كلامية حدثت منذ عامين، واحتلت الصدارة في تعليقات المعلقين الأوروبيين.. رفع جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية يده علي طريقة التحية الهتلرية، وهو يستقبل ڤيكتور أوربان في قمة الاتحاد الأوروبي ب»لاتڤيا»، قائلا: »أهلا بالدكتاتور»! ورد أوربان علي يونكر الذي سبق له أن تولي منصب رئيس وزراء لوكسمبرج قائلا: »مرحبا.. بالدوق الأكبر».. وهو وصف يطلق علي عاهل لوكسمبرج، في إشارة من أوربان إلي أن يونكر يظن أنه ملك لأوروبا ويريد أن يتحكم في كل دولها!
زيارة الرئيس السيسي لبودابست هذه المرة لها شقان: الشق الأول ثنائي: من خلال سلسلة من المباحثات واللقاءات تتم اليوم، وتشمل بجانب أوربان، رئيس الجمهورية يانوش أدير، ورئيس البرلمان لاسلو كوفير. ثم يلتقي السيسي وأوربان مع رجال الأعمال المشاركين في المنتدي المصري المجري. مباحثات القمة بين السيسي وأوربان تتناول استعراضا لما تم في مجالات التعاون المشترك خلال العامين الماضيين، وآفاق هذا التعاون في مجالات الطاقة والنقل والسكك الحديدية وزيادة التبادل التجاري. وفي هذا الإطار.. يحمل أعضاء الوفد المصري المرافق للرئيس السيسي، عدداً من المشروعات المحددة من بينها مشروع لتجديد قضبان السكك الحديدية لمسافة 1200 كيلومتر، وإنشاء المرحلة الأولي لخط حديدي جديد يربط العين السخنة بالعلمين، وتشمل هذه المرحلة ربط العاصمة الجديدة بالإسكندرية، وكذلك مشروع مشترك لتصنيع عربات القطارات الخاصة بهذا الخط في مصر. علي الجانب السياسي.. تتركز المباحثات علي قضايا إقليم الشرق الأوسط، والتعاون مع الاتحاد الأوروبي، وتعزيز التشاور والتنسيق وتبادل المعلومات في مجال الأمن والتصدي للإرهاب ومكافحة الهجرة غير الشرعية.
أما الشق الثاني للزيارة، فهو يتعلق بمشاركة الرئيس السيسي غداً في قمة »ڤيشجراد» التي تترأس المجر دورتها الحالية. »ڤيشجراد» هو تجمع أنشئ عام 1991 يضم 3 دول هي المجر وبولندا وتشيكوسلوڤاكيا، خلال اجتماع قمة لقادة هذه الدول عقد بمدينة »ڤيشجراد» المجرية، التي اكتسب التجمع اسمه منها. الغرض من إنشاء الدول الثلاث الجارات في وسط أوروبا، كان التنسيق فيما بينها وتعزيز التعاون الثلاثي للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي النيتو، بعد تفكك الاتحاد السوڤييتي وانهيار الكتلة الشرقية وزوال حلف وارسو، وفي عام 1993 أصبح التجمع يضم 4 دول، بعد أن انقسمت تشيكوسلوڤاكيا إلي دولتين هما تشيكيا وسلوڤاكيا. وبحلول عام 2004 أصبحت الدول الأربع جزءاً من الاتحاد الأوروبي. بجانب التطلعات الأوروبية لهذه الدول، فهناك أسباب أخري دفعتها لإنشاء التجمع هو أنها تنتمي لحضارة واحدة وجذور عرقية مشتركة، مما يعزز رغبتها العمل معاً داخل الإطار الأوروبي في توطيد أواصر التعاون بينها في مجالات الثقافة والتعليم والعلوم وتبادل المعلومات. وقد صدر عن هذا التجمع 4 إعلانات سياسية، آخرها إعلان براتسيلاڤا عام 2011.
يبلغ عدد سكان دول تجمع »ڤيشجراد» الذي يعرف اختصاراً باسم »ڤي -4» 64.3 مليون نسمة أي قرابة ثلثي عدد سكان مصر، ومعظمهم في بولندا التي يقطنها 38.5 مليون نسمة. وتصل المساحة الإجمالية لهذه الدول 518 ألف كيلومتر مربع أي ما يزيد قليلا علي نصف مساحة مصر، وأكبرها بولندا بمساحة 304 آلاف كيلومتر. ويبلغ إجمالي الناتج المحلي لهذه الدول 1.8 تريليون دولار، مما يجعل من هذا التجمع خامس أكبر اقتصاد في أوروبا بعد ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وتستحوذ بولندا وحدها علي أكثر من تريليون دولار كناتج محلي لها، مما يجعلها بمفردها سادس اقتصاد في أوروبا. بينما تتفوق مصر علي الدول الأربع في معدل النمو الذي وصل في عام 2016 إلي 3.8٪ بينما يصل أعلي معدل لهذه الدول في بولندا إلي 3.1٪.
منذ إنشاء هذا التجمع الذي يعقد اجتماع قمة في منتصف كل عام، لم تشارك فيه أي دولة طيلة 26 عاماً من عمره سوي ألمانيا واليابان، لتكون مصر الدولة الثالثة التي تشارك في أعماله، والأولي علي مستوي الشرق الأوسط وأفريقيا ودول المتوسط. دعوة رئيس الوزراء المجري، للرئيس السيسي للمشاركة في أعمال قمة دول »ڤيشجراد»، لا ترجع فقط إلي تقديره الشخصي للرئيس السيسي والعلاقات الوطيدة التي تربط بلاده بمصر، إنما تعود أيضا إلي العلاقات التاريخية التي تربط هذه الدول الأربع بمصر وإيمانها بدور مصر المحوري في إقليمها وسياساتها الخارجية المتزنة، وموقفها من قضيتي مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وأيضا للخطوات التي تنتهجها علي صعيد التنمية الاقتصادية، بما يبشر بآفاق أوسع للتعاون مع هذه الدول بصورة جماعية أو ثنائية. عندما تلقت مصر الدعوة للمشاركة في أعمال هذه القمة، رحبت بحضورها لأسباب عديدة، منها فتح نوافذ مع مجموعة داخل الاتحاد الأوروبي تتفهم مواقف مصر وتدافع عنها، وقد ظهر ذلك في أعقاب ثورة 30 يونيو من جانب الدول الأربع دون استثناء. أيضا توسيع آفاق التعاون مع هذه الدول، سواء في تطوير مصانع قطاع الأعمال العام، التي شاركت في إنشائها في سنوات الستينات، والاستفادة من التكنولوجيات الحديثة بهذه الدول، وتشجيع حركة السياحة من هذه الدول وجذب استثماراتها لإقامة مشروعات بمصر في مجالات متنوعة، كذلك استغلال موقع مصر والاتفاقات التي تربطها بالتجمعات العربية والأفريقية، في تحويلها إلي مركز للتجارة بين دول تجمع »ڤيشجراد» والمنطقة العربية وقارة أفريقيا. ومن المقرر أن يلقي الرئيس السيسي كلمة أمام القمة يتناول فيها فرص الاستثمار بمصر، وإجراءات الإصلاح التي تنتهجها للنهوض باقتصادها، والمشروعات القومية الكبري الجاري إقامتها، ومجالات التعاون الرحبة بين مصر ودول التجمع. وينتظر أن يصدر عن القمة بيان مشترك يتناول مجمل آفاق التعاون ورؤي مصر وهذه الدول تجاه أزمات الشرق الأوسط وقضايا الإرهاب والهجرة غير الشرعية.
من قمة العشرين بمدينة هانغجو الصينية في أغسطس الماضي، إلي القمة الألمانية الأفريقية في برلين الشهر الماضي، إلي قمة مصر ودول »ڤيشجراد» ببودابست غدا، ثم إلي قمة دول البريكس الخمس بمشاركة مصر و8 دول نامية في سبتمبر المقبل بالصين.. تجني مصر حصاد علاقات دولية متوازنة، وسياسة خارجية رشيدة منفتحة خلال ثلاث سنوات مضت، بمشاركة واسعة متعددة في المحافل الدولية، تعمق التشاور السياسي حول القضايا الإقليمية والعالمية وتعزز جهودها لتوسيع التعاون مع مختلف الدول والتجمعات لدفع مشروعها الوطني في مجال التنمية الاقتصادية والبشرية. ولعل نظرة العالم إلي مصر، تلخصها عبارة الزعيم المجري أوربان للرئيس السيسي في لقائهما الأول: »لا استقرار في العالم العربي بدون مصر، ولا استقرار في أوروبا بدون بقاء مصر مستقرة».