الذي يسقط المحرمات ويدوس المقدسات ليس إنسانا، ومشاركة مسئولين عرب من مصر والأردن والمغرب في جنازة بيريز جريمة ضد الإنسانية، والأنكي مشاركة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وبدعوي الحفاظ علي الصورة »السلامية» للفلسطينيين، وهو أول من يدرك أنه لا سلام ولا يحزنون، وأن القوة تفرض طبائعها وقواميسها، وأن الحق بغير القوة ضائع، وأن بيريز كان وحشا مفترسا في صورة بشرية، وأن جيل بيريز »الإسرائيلي» هو الذي طرد الفلسطينيين من أرضهم، وأن بيريز هو مهندس المشروع النووي الإسرائيلي، وهو عنوان الحرب ضد انتفاضة الأرض الفلسطينية عام 1976، وهو صاحب مذبحة »قانا» المروعة عام 1996، وهو قبلها صاحب خديعة أوسلو 1993، والتي كان عباس شريكه فيها، وبما قاد للمأزق الذي تعيشه القضية الفلسطينية إلي اليوم، بعد أن تحول مجرم الحرب إلي رفيق سلام، وتحول الجاني إلي بطل يتسابق الضحايا إلي تكريمه، وعلي نحو ما بدا عليه الحضور المذل لمسئولين عرب في جنازة شيمون بيريز. ليس للمسألة وجه إنساني ولا شبه إنساني، وما من مبرر بروتوكولي ولا غير بروتوكولي لحضور عرب بالجنسية في جنازة السفاح بيريز، فلا يوجد في القانون الدولي إلزام ولا شبه إلزام بحضور الجنازات ولا الأفراح، لا مبرر دبلوماسي ولا أخلاقي، اللهم إلا إذا كانت المعايير كلها قد انقلبت، وصارت الكرامة عجينا، وصار البعض مولعا بالعار كأنه الجائزة الكبري، وعدوا لوطنه وأهله إلي حد احتقارهم، وإهانة دماء مئات الآلاف من الشهداء الذين سقطوا في الحروب ضد كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وللملايين التي جري طردها وتشريدها إلي أربع جهات الأرض، فلا الدماء ماء زلال، ولا الأوطان وجهات نظر، ولا مقدساتنا وحرماتنا الإسلامية والمسيحية مباني عشوائية، ولا عين أخيك كعين عدوك، وقد عاش بيريز عدوا شرسا للفلسطينيين والعرب، وبذل غاية طاقته وذكائه ومواهبه لخدمة كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وطبيعي أن تنظر إليه الحركة الصهيونية كبطل وحكيم ومهندس مؤامرات، وأن تسعي لتكريمه في جنازة مشهودة، وأن تدفنه في جبل بالقدس العربية المحتلة، أطلقوا عليه اسم »هرتزل» مؤسس الصهيونية المعاصرة، كل ذلك يبدو طبيعيا جدا عند الإسرائيليين، فقد جئ بهم إلي فلسطين التي اغتصبوها، وطردوا أهلها، واحتلوا بيوتهم وأراضيهم وبساتينهم، تماما كما هي حال بيريز »البولندي» الأصل، والذي عاش بالسيف الباتر للحق الفلسطيني، ومات ودفن في القدسالفلسطينية، فقد اغتصب القبر بعد اغتصاب البيت، فحياته حرام وقبره حرام، ومشاركة عرب في جنازته إثم ديني ودنيوي، يظل يلاحق أصحابه، ونبرأ منه إلي الله والأوطان والشعوب، فهم ليسوا منا ولسنا منهم، وحالهم كحال الصهاينة، يكرمون كبيرهم الصهيوني بيريز. كانت الجنازة حارة والميت »...»، ولا يساوي، وكان كل المجرمين علي شاكلته في صفوف الجنازة الأولي، فالطيور علي أشكالها تقع، سيماهم علي وجوههم، و»قلنسوات» اليهود علي رءوسهم، فهم الذين صنعوا كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وهم الذين جعلوه خنجرا مسموما في خاصرة العرب وعلي باب مصر، وكان طبيعيا أن يشارك ولي العهد البريطاني، فبريطانيا هي التي أعطت وعد »بلفور» قبل مئة سنة، أعطت ما لا تملك لمن لا يستحق، احتلت فلسطين، وسلمتها غنيمة لعصابات الحركة الصهيونية، وكانت وقتها تحتل مصر أيضا، ثم شاركت إسرائيل في حرب العدوان الثلاثي علي مصر، ومعها فرنسا التي شارك رئيسها بحرارة في الجنازة، وكانت البلد الذي لجأ إليه بيريز لبناء مفاعل »ديمونة» النووي، فقد كانت الدفعة الأولي الكبري لقنابل إسرائيل النووية بتكنولوجيا فرنسية، قبل أن ترث أمريكا نفوذ بريطانياوفرنسا الاستعماريتين الغاربتين، وتصبح السند الجوهري لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، وتعتبر جيش إسرائيل كأنه الجيش الأمريكي، واقتصادها كأنه اقتصاد واشنطن، وتكنولوجيتها كأنها تكنولوجيا البنتاجون، وتندمج معها استراتيجيا في صراعات المنطقة والدنيا، وتدفع لها الضرائب بانتظام، إلي حد منح أوباما لإسرائيل 38 مليار دولار هدية رحيله عن البيت الأبيض، برغم أن أوباما يكاد لا يطيق نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، وعبر عن ضيقه من عجرفته غير مرة، لكن تلك كلها مجرد »سكرات» تنتهي دائما بالفكرات، فمصلحة كيان الاغتصاب الإسرائيلي فوق الاعتبارات الشخصية للرئيس الأمريكي، ولها أولوية الكتاب المقدس، وجعلت أوباما يختال في جنازة بيريز بالقلنسوة اليهودية، ويهوي بكلمات الوقاحة والجلافة إلي الدرك الأسفل، ويشبه بيريز بنيلسون مانديلا زعيم كفاح جنوب أفريقيا ضد العنصرية والاستيطان الأبيض، برغم ما هو معروف بداهة من رفض مانديلا لعنصرية كيان الاغتصاب والاستيطان الإسرائيلي، وموقفه المؤازر بالمطلق للحق الفلسطيني، فلم يكن مانديلا من عبيد الصهيونية علي طريقة أوباما، والذي أهان مانديلا بمساواته مع مجرم حرب استعماري عنصري عتيد من عينة بيريز. كانت الجنازة متسقة لولا نشاز الحضور العربي، فأبرز الذين حضروا هم واحد من اثنين، إما من الإسرائيليين الذين يذكرون لبيريز فضل جرائمه، أو من قادة الغرب الاستعماري، والصهيونية نبتة طبيعية لعنصرية وعدوانية الغرب، وقد احتل هؤلاء بلادنا مشرقا ومغربا، واستنزفوا ثرواتنا ومواردنا، أذلونا وأهانونا، ولايزالون يفعلون، وهم وإسرائيل »حتة» واحدة، وقد احتفلوا بتكريم بيريز بصفته رفيقهم ومثلهم الأعلي الإجرامي، فهولاند وتشارلز وأوباما مجرد أطفال علي موائده، وقد عاشت دولهم في خدمة بيريز وإسرائيل، وجاءوا إلي جنازة بيريز لتجديد العهد والوعد، وتأكيد دورهم في بناء وحماية إسرائيل، فهم يحتفلون بما قدموا، ويعدون بالمزيد، وهذا كله يبدو طبيعيا ومفهوما في سياق ما جري ويجري، لولا أن نفرا منا شاءوا أن يخلطوا الأوراق، وأن يزوروا التاريخ لصالح الصهيونية ولصالح بيريز، وأن يشاركوا في تكريم القاتل باسم أهل القتيل، وأن يحولوا موتنا إلي موتين، وأن ينالوا امتياز العار الذي لا ينازعهم فيه أحد.