لم أندم يوما على أنى كنت عضوا فى الجماعة الإسلامية. لماذا؟ كان لا بد لى أن أمر بهذه التجربة حتى لا يبتزنى أحد بما أجهل، وحتى أكون على ثقة بما أعلم. كما أن التشدد الدينى جزء أصيل من ثقافة شعبنا (عكس ما نشيع عن أنفسنا، لا سيما فى جيلى)، وينبغى أن يفهم الإنسان منشأه ومآله، ويفصص حججه ويفندها. بالنسبة إلىّ، فإن هذا التشدد يأتى مكملا ومتكاملا ومتسقا تماما مع الرياء والتعصب الدينيين. وهذا متوقع فى بلد دياناته تحتقر تاريخه، فلا يجد أبناؤه محلا للفخر بالوطن، وبأخلاقه الموروثة. ولا أدل على هذا من أن كل ما يمت إلى الحضارة الفرعونية الرائعة الباقية على الأرض، بأدلة ملموسة، ومعجزات محسوسة، يستخدم بمدلول سلبى: «قلنا عليه موسى طلع فرعون»، «يا فرعون إيه فرعنك؟ مالقتش حد يلمنى». وقبل أيام، وصف زعيم جماعة «الإخوان المسلمين» الإعلاميين بأنهم سحرة فرعون. وهو يريد من ذلك أن يذمهم، ويريد من باب خفى خبيث أن يمدح نفسه، بأنه من القوم المؤمنين. طيب يا سيدى. سحرة فرعون، كما تقول الرواية الدينية، أنكروا الحق صباحا ثم آمنوا به ليلا. كانت لهم وجهة نظر لكنهم كانوا منفتحين على الآخر ومستعدين لتبديل آرائهم إن اقتنعوا بصوابه. ليس فى هذا عيب، لكن العيب كل العيب فى من ظهر لهم الحق، وبانت لهم الآيات، ورغم ذلك أبت نفوسهم الوضيعة إلا أن تصنع لنفسها عجلا تعبده. هل تعرف مَن هؤلاء؟ قبل أن تستخدم ميراثك التعصبى، هؤلاء هم كل من لم يستطع التخلص من عاداته القديمة. فحتى بعد أن خلصهم ربهم ممن تجبر عليهم، وحين شق لهم أبواب سجنهم، وحين أنزل عليهم من خيره العميم ورزقه الوافر، أبوا إلا أن يعودوا سيرتهم الأولى، فيعبدوا عجل السلطة الأدنى، التى خلصوا للتو منها. هؤلاء الذين خانوا العهد، وتركوا الناس يعرضون حياتهم للخطر فى الميدان، بينما هم يساومون من خلف ظهورهم على مكاسب لهم. هؤلاء الذين سكتوا بانعدام أخلاق لا يحسدون عليه على جرائم قتل ترتكب أمام أعينهم، بل إنهم استخدموا آلتهم الدعائية لتحريض الناس على الضحية، هؤلاء من إذا قَتل فيهم أبو رتبة «حمَوه»، وإذا احتج فيهم الوطنى أغروا بقتله. وليس التشابه بينكم وبين عبدة العجل يقتصر على ذلك، بل إن شعور الاضطهاد الذى تحملونه داخلكم شبه آخر. المضطهدون القدامى لم يشفع لهم تعرضهم للاضطهاد حين ظَلموا، فاستحقوا غضب ربهم، واستحقوا التيه. بالمثل، فإن تعرضكم للاضطهاد سابقا لا يبيح أبدا كل الجرائم التى تقترفونها إذ جاء النصر والفتح. أعود على بدء. هل علمتم لماذا لم أندم أبدا على سنوات الجماعة الإسلامية؟ لأننى تعلمت القصص الذى تعلمتموه والذى تُعلمونه لأبنائكم وأتباعكم مقرونا بتفسيراتكم، لكننى إذ تفكرت فيه فهمت جوهره، ولم أكتف بحرفه. ولولا أننى عشته لظللت سجين المجهول. كما كثير من أبناء وطنى سجناء هذا المجهول. لقد خاطب المضطهِدين القدامى ربُهم فى سفر الخروج، فقال لهم، «لا تضطهد الغريب ولا تضايقه، لأنكم كنتم غرباء فى أرض مصر»، لم يقل لهم إن غربتكم واضطهادكم تبرر لكم ما تفعلون. أنتم معذورون والحرج مرفوع عنكم. لم أتعلم من القصص إذن أن أعتبر نفسى دائما (ولو إيحاء) فى صف «الشعب المختار»، بينما من يخالفوننى فى صف «الكفار»، إنما تعلمت أن لا أحد يملك ختما ربانيا بالرضى مهما فعل، حتى الذين اصطفاهم ربهم بنفسه، وسماهم شعبه. إنما الرضى والغضب مرتبط -قبل الإيمان- بالعمل. وفى القرآن: «كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر»، هذا أولا، ثم «وتؤمنون بالله». وفى تفسير القرطبى، كنتم خير أمة أخرجت للناس (إذ) تأمرون بالمعروف... أى أن التفضيل مشروط، بحسن الخلق، وحسن الفعل، والابتعاد عن الباطل، والابتعاد عن الظلم والظالمين. وبمناسبة حسن الخلق، استمع إلى ما يشهد به الميت على نفسه لكى ينال الحظوة فى الحياة الآخرة عند قوم فرعون: ... أنا لم أنقص القياس، ولم أغش فى الكيل ولم أطفف فى الميزان. أنا لم أطرد الماشية من مراعيها. أنا لم أتسبب فى بكاء أحد. أنا لم أحرم إنسانا من حق له... كلها معاملات. وهل يهم الإنسان من الإنسان إلا المعاملة؟ أما جماعة تعجب الجُهَّالَ قيمُها ويأنفها ذوو العقول الرشيدة، أما جماعة من الطاعنين فى الظهر، والساكتين عن الحق، والمعينين على الباطل، فلا تستحق أبدا أن تقيم نفسها حكما على الناس. ومن الآن فصاعدا سنرد لكم الصاع صاعين، فقد زالت القداسات حين رأينا كذبكم وخيانتكم وغدركم. يشرفنا أننا سحرة فرعون، يا إمام عبدة العجل