أظننا خلاص تعودنا على تلك الآيات المدهشة من آيات الكذب والنفاق والمخاتلة التى ينتجها يوميا السادة الأفاضل المتمسحون بالدين الحنيف، بينما هم يحتشدون ويعربدون بغشم وجلافة على مسرح السياسة والحكم فى هذا البلد المنكوب.. ومع ذلك أقر وأعترف بأننى لم أتمكن بسهولة من ابتلاع وتصديق حقيقة تلك الفضيحة المدوية المتمثلة فى هتك ستر وكشف سر اجتماعات ولقاءات ساخنة وحميمة جمعت رهطا من أصحاب الفضيلة شيوخ «السلفية» ورهطا آخر من قادة وشيوخ «الإخوان» بالجنرال أحمد شفيق، فى وقت كان كل هؤلاء يملؤون الدنيا صخبا وضجيجا وجعيرا ضد الرجل باعتباره من أركان نظام المخلوع أفندى ومجرما هاربا من وجه العدالة، قتل شهداء ثورة تذكروها واستدعوها فجأة آنذاك، لأسباب انتخابية انتهازية مشتركة. والحق أن العبد لله أمضى أياما يجاهد لإنشاء تعليق مبتكر ومناسب على هذه الفضيحة حتى تذكرت واحدة من أشهر المسرحيات فى تاريخ الكوميديا العالمية. مسرحية «ترتوف» التى أبدعها عملاق الأدب الفرنسى «موليير» قبل أكثر من ثلاثة قرون (عام 1669) وقام بتعريبها وتمصيرها محمد بك عثمان جلال فى نهاية القرن التاسع عشر وأدخل على عنوانها تحريفا لا يخلو من حذق وذكاء، فجعله «الشيخ متلوف» بدل «ترتوف»، فى إشارة قوية الدلالة لطبيعة شخصية بطل المسرحية الذى يدعى على الناس التقوى ويلبس مسوح الصلاح والورع، لكنه فى حقيقة الأمر كاذب مخادع ونصاب.. إنه مجرد شيخ مزور، أو بالأحرى «شيخ متلوف». المسرحية تلك التى ظلت نسختاها، الأصلية «المولييرية» ونسخة عثمان جلال المعربة، عشرات السنين لا تكاد تغادر برامج عروض المسرح القومى المصرى (لماذا اختفت الآن؟!) تماما كما كان وما زال يحدث فى كل مسارح العالم الكلاسيكية، تحكى قصتها باختصار عن رجل دين منافق يدعى «ترتوف» ينجح عبر استخدام مهاراته فى الخداع والاحتيال فى السيطرة تماما على قلب وعقل «أورجون» الثرى وأمه «برنيل»، وبسبب اقتناعهما الراسخ بصلاح وتقوى هذا النصاب يدعوانه للعيش معهما فى المنزل حتى يعم الخير على باقى أفراد العائلة، غير أن هؤلاء سرعان ما يكتشفون سوء أخلاق الرجل وانحرافه بيد أنهم يفشلون فى إقناع «أورجون» وأمه بحقيقة الضيف الثقيل الذى يمعن فى الهيمنة على الاثنين لدرجة أن الابن يقرر تزويج فلذة كبده «ماريان» لترتوف رغم علمه بأنها مغرمة بالفتى «فالير».. عند الحد ذاك تستجمع «المير» زوجة أورجون شجاعتها وتتحرك لإنقاذ ابنتها من الوقوع فى براثن ترتوف فتقابل هذا الأخير وتفاتحه فى الأمر، طالبة منه التحلى بالمروءة والامتناع عن طلب يد «ماريان»، لكنه يفاجئها بنذالته وشذوذه، إذ يتجرأ عليها فيغازلها ويراودها عن نفسها. هذا المشهد المخزى يراه الشاب «دينى» شقيق مريان فيذهب لوالده أورجون ويحكيه له على أمل أن يدرك حقيقة الرجل المتلاف المنحرف الذى منحه ثقته، لكن الأب لا يصدق، بل يطلق العنان لغضبه ويعلن حرمانا على ابنه من ثروته ومنحها لترتوف. تتأكد الزوجة من استحالة إقناع زوجها بالكلام لهذا تلجأ لحيلة قبلها أورجون بالعافية، فقد اتفقت معه أن يتخفى أسفل منضدة، بينما هى تتحدث إلى ترتوف لكى يرى ويسمع بنفسه ما سيفعله هذا الأفاق، وبالفعل يشاهد الزوج كيف أن ضيفه التقىَّ الورع يحاول إغواء زوجته ويحرضها على الخيانة.. يثور أورجون ويهم بطرد ترتوف، لكن هذا الأخير هو الذى يطرده والعائلة كلها، إذ كان عرف أن الرجل تهور ووقع فعلا على وثيقة نقل ممتلكاته كلها إليه. ولا يكتفى ترتوف بهذا، بل يذهب فى الشر والنذالة والخسة إلى درجة أن يبلغ الشرطة ضد مضيفه، طالبا القبض عليه بتهمة إخفاء أوراق سرية تخص صديقا لأورجون متهما فى قضية سياسية.. غير أن الضابط الذى يأتى فى آخر مشاهد المسرحية للقبض على المتهم، يفاجئنا باعتقال ترتوف نفسه، لأن أمره كنصاب «متلوف» انكشف للسلطات. المشكلة أن «السلطات» أحيانا تكون فى أيدى النصابين «المتلوفين»!!