الفرق بين 6 أكتوبر 1973 و9 أكتوبر 2011 ليس عابرًا.. إنه الفرق بين انتصار عسكرى عبرت فيه القوات المصرية إلى أرض احتلتها إسرائيل، ومذبحة ارتكبتها قوات مسلحة أيضا، لكنها عبرت على أجساد المصريين. الفرق بين موقع ترى فيه أن الوطنية هى سجل انتصارات السلطة وأمجادها العسكرية، ونظرة ترى أن حياة وكرامة وحقوق الفرد هى جوهر الوطنية. الوطن ليس ذلك الكيان الغامض المائع الهيولى الذى نغنى له ونتحدث عنه، لكنه الكيان الذى يحقق السعادة للساكنين فيه، ويضمن الحقوق لأفراده.. ويكون ملعبا للحرية.. لا وكرا للخفافيش وكل الوحوش القذرة. الوطنية ليست أمجاد الأبطال العسكرية، ولكنها القدرة على بناء دولة محترمة تضمن الحياة الكريمة لكل فرد على أرضها. هذه الملاحم عن عظمة الجنود المصريين تتحول إلى إنشائيات فارغة إذا عاد الجندى إلى الجبهة ولم يجد عملا أو مستشفى أو مدرسة أو سار فى الشارع فوجده تحت سطوة قُطّاع طرق برعاية حكومية، أو دخل قسم بوليس فاضطر إلى أن يحمد ربه على أنه خرج حيًّا يُرزق. كل انتصاراتكم بلا قيمة إذا لم نشعر أننا فى بلد تحترم كل فرد فيها بعيدا عن اللون والدين والجنس. دول فاشية هى التى رُبِّيت على أن الأمجاد لونها كاكى. المجد أو الاحترام لمن أسهم فى بناء دولة لا تَقهر مواطنيها باسم «حب مصر»، ولا تعتبر المطالبة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.. تنفيذًا لأجندات خارجية. هذا ما يجعلنا نتذكر اليوم المذبحة قبل الانتصار. 9 أكتوبر قبل 6 أكتوبر. أين ذهب القتلة؟ لماذا لم يحاسب أحد من قادة الجيش على ارتكاب جرائم ضد إنسانية المتظاهرين فى ماسبيرو؟ جمهورىة الخوف كانت وراء الهزيمة العسكرية فى يونيو، حيث حولت أجهزة الاستبداد الحياة إلى رعب دائم، وتحالفت تماما مع وحوش الفساد.. لتعود الدولة كلها إلى الوراء. الدولة التى ارتبطت بحلم مغامرىن (من محمد على إلى جمال عبد الناصر) ظلت أسيرة المغامرة، ولم تتحول إلى حقىقة تعبر عنها مؤسسات فوق الجمىع. وهذا ما كان وراء «مذبحة ماسبيرو»، حيث داست مدرعة مصرية مواطنًا مصريا أراد المطالبة بحقوقه. مؤسسة الجيش السلطوية اعتبرت أن هذا الخروج خيانة لجمهورية هى نواتها الصلبة. والتليفزيون يومها حَرّض المواطنين على «الخونة» الذين يقتلون الجيش.. والمذبحة لم تكن سوى تمثيل عن صدام بين مجتمع، يطالب مواطنوه بالكرامة، أى المواطنة ومؤسسة سلاح تربت على قهر الفرد وتحويله إلى شىء فى خدمة ماكينة تدور مرة على جبهة النار، أو فى محطات البنزين والسوبر ماركت. الجيش لم يحاسَب عند الهزيمة ولا عند المذبحة.. وهذا ما سيكشف تفاصيل شركة الحكم التى تبنى قواعدها الآن فى مصر. أين القتلة؟ المرسى ما زال يكرر خرافة أن الجيش حمى الثورة.. وما زال يكرم قادة المجلس العسكرى على دورهم فى المرحلة الانتقالية. ويبدو أنها مكافآت مساعدته فى الوصول إلى مقعد الرئاسة، ويبدو أن المرسى لم يقرأ تقرير منظمة العفو الدولية بالتأكيد. لم ير الشهداء والقتلى ولم يسمع حكايات الذين أقيمت لهم حفلات تعذيب على يد ضباط وجنود من الجيش.. وإلا لماذا أعاد فى زيارته إلى أمريكا الخرافة السخيفة بأن الجيش حمى الثورة. تقرير «العفو» انتهى إلى أن القوات المسلحة ارتكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان إبان الأشهر الستة عشر من حكم «المجلس الأعلى للقوات المسلحة»، واقترف المجلس كل هذه الانتهاكات دونما عقاب لأحد.. وتقاعست الهيئات القضائية، العادية منها والعسكرية، عن ضمان أى إنصاف فاعل للضحايا، ولذا فما زالوا -الرجال منهم والنساء- يعانون، بينما لا يزال منتسبو القوات المسلحة واثقين من أنهم فوق القانون».. فوق القانون هذه هى جاذبية السلطة، أو سرها لمن لا يملك سوى شهوة السلطة (له أو لجماعته) مقابل عدم كفاءة مدهش لا يؤهل إلى الاستمرار فى الحكم أكثر من أسبوع، لكن عبر السيطرة والهيمنة استمر الجنرالات السابقين عن مبارك.. وبحث مبارك عن الهيمنة فلم يجد غير خطاب ركيك عن الحكمة التى لا تقلق المتوافق مع نظام اللصوصية.. بينما المرسى لا يجد من خطابات الهيمنة المتناثرة حوله سوى صناعة وحش سنّى.. يصلح للاستخدام المحلى والدولى.. داخل مصر ستضعه القطعان الباحثة عن بطل على رؤوسها، بينما فى العالم سيكون مكمل مثلث مواجهة الوحش الشعى على الضفة الأخرى. لا مانع هنا من غرق المنطقة فى حرب هُويات قاتلة.. المهم أن يبقى مَن هو فوق القانون فوقه.. سواء كان رئيسا مثل المرسى أو دولة مثل أمريكا المستمتعة بالسيطرة على بحيرة البترول التى تعوم المنطقة عليها. وهذا ما يجعل شركة الحكم الجديدة قابلة للدخول فى «النظام» بشكل مختلف سيظهر قريبا..