الصحافة وحريتها كانت العدو الأول للنظام البائد رغم الشعار الشهير «عصر لم يقصف فيه قلم»، كنا نفهم أسباب العداوة والخوف من حرية الصحافة والمطاردات التى لم تتوقف وتفصيل القوانين التى تبرر قصف الأقلام وحبس الصحفيين.. بعد الثورة كيف نفهم أسباب ودوافع مَن يريدون استنساخ المطاردة وترويع الصحافة وقصف الأقلام وحبس الصحفيين وإغلاق المؤسسات؟! ولكن هذه المرة بخطوات متقدمة تضعها فى نصوص دستورية! ما مخاوفهم من الحريات.. لا أخاف ولا أخشى قدر مَن يخافون ويخشون الحرية.. وهل يدبرون ما لا يمكن أن تهاونه أو تسكت عنه الصحافة! إن عدم وجود عقوبات مقيدة ومهددة ليس تمييزًا للصحفى كما يدعون، لكن حماية لحق القارئ فى أن يعرف وأن تصله الحقائق كاملة دون مصادرة.. أما التجاوزات التى تخرج من ميثاق الشرف الصحفى، فهناك ترسانة قوانين تعاقب مَن أخطأ وحده ولا تحوّل العقوبة إذا كانت مستحقة إلى انتقام من الصحيفة والمؤسسة وجميع العاملين فيها، هذا إذا لم نستطع أن نقيّم بالحوار وبالحقائق الموثقة ما يكذب ويدين ويفقد مصداقية مَن لا يحترم أمانة ورسالة الصحافة. معارك اليوم المؤلمة التى تدور حول أبجديات حرية الصحافة وانكشاف أجيال جديدة من المتربصين بها والخائفين منها أعادتنى إلى بعض ما كتبت وأنا أناضل وسط كتيبة من الأسرة الصحفية فى معركة من معارك النظام الساقط ليتصيد حرياتها ومطاردة وحبس الصحفيين، واقتطعت هذه السطور من مقال كتب بصحيفة «الوفد»، لاحظوا أن منعى من مواصلة الكتابة على صفحات «الأهرام» كان فى إطار مطاردة الكتّاب فى عصر لم تكن المطاردة والمنع محصنين بنصوص دستورية، تاريخ نشر المقال «الإثنين» 10 يوليو 2006. ■ عقد البرلمان جلسته لإعلان الحرب على عدو خطر يؤرق مضاجع الثروات ويهدد مخططات أصحاب النفوذ الجدد بإقرار قانون حبس الصحفيين وتغريمهم وبيع لحومهم وجلودهم، فإذا كانت هذه السطور مما يقع تحت طائلة القانون فبعض الوثائق الحية وشهادات الواقع والمصريين ستكون أحد أهم وثائق الإثبات، ما ورد فى التقرير السنوى الثانى للمجلس القومى لحقوق الإنسان والذى بعد أن يستعرض فى مقدمته انتهاكات الحقوق المدنية والإنسانية يطالب بضرورة إلغاء عقوبة الحبس فى جرائم النشر. ■ لم تزدهر الصحافة قدر ما ازدهرت فى أزمنة المعارك، فقد كانت دائمًا لها، وقد خاضتها انتماءً لهموم الوطن ودفاعًا وحماية وتنويرًا وتبصيرًا، وللأسف أصحاب المصالح والأهواء يريدونها معركة للدفاع عن النفس، ويجب أن نحوّلها إلى معارك تدافع عن الحقوق الدستورية والقانونية لحرية الكلمة التى تركناها تغتال وتهدر لتبقى الصحافة تابعة خاضعة للتوظيف والتعيين، فاقدة للاستقلالية، تُستغل كإحدى واجهات التلميع والدعاية والترويج. آن الأوان أن تتمسك النقابة وشرفاء وشيوخ وشباب أسرة الصحافة بكرامة واستقلالية المهنة ورفع الوصايات والأوصياء غير الشرعيين وإيقاف العبث بحرياتها والمحاولات اللئيمة للفصل بين حقوقها وحقوق المجتمع وصالحها وصالحه وحرياتها والحريات الخاصة، ولإقامة تناقض بين إطلاق أجنحة التعبير خارج الأسقف الرسمية وبين الإضرار بالرأى العام ومصالح المواطنين، وكأنها لم تكن دائمًا فى مقدمة جبهات الدفاع عن هذه المصالح.. مجمل ما حدث فى البرلمان والهجوم على الصحافة جسّد المخاوف والفرائص التى ترتجف من أن تتجاوز الصحافة جميع الخطوط الحمراء التى تكشف جبل الجليد الذى لا نرى غير قمته من الثروات التى تكوّنت وامتصت من دماء المصريين والأخطاء والتجاوزات والمفاسد.. ولماذا لم يحرك واحد من المضارين الملسوعين الخائفين قانونًا واحدًا من القوانين العديدة المتوفرة التى من شأنها إعمال عقوبة الحبس فى قضايا النشر، والتى لم تكن تنتظر قانونًا جديدًا يضاف إليها؟ قد يستطيعون أن يذهبوا بجميع الأقلام إلى السجون، ولكن على المدى الطويل الحقيقة وحدها ستبقى وتسطع كالشمس وما عداها من المبتسر من القوانين والفاسدين والفسدة، وأصحاب المصالح سيسقطون وتطير من فوقهم جميع أوراق التوت، وسيثبت كما ثبت دائمًا ما قاله الحكيم المصرى القديم (إنه ليس مثل صوت الكاتب بالحق يبقى مدويا كالرعد – إن صوت الناس سيفنى ولكن صوت الكاتب يعيش أبد الدهر). ■ فى صياغة دستور جديد لمصر بعد ثورتها يخطئ الذين يتوهمون أنهم يستطيعون استنساخ مطاردة الحريات، وعلى رأسها حرية الصحافة، وأذكرهم بمصير النظام الذى أسقطته الثورة، وأرجو أن يحترموا قيمة الكلمة وسيادتها وقيمة وأهمية تحريرها وكل ما يدركه جيدًا مَن ليس لديهم ما يخافون أو يخشون من إطلاق الحريات تحت مظلة الأطر القانونية للمحاسبة والمراجعة، وأثق أنه فى مقر الرئاسة حارس أمين من أهم وأصدق المدافعين عن الحريات وعن ضرورة خروج وثيقة دستورية تحترم المكونات الحضارية والثقافية والإيمانية للمصريين وأن يتجلى فى الدستور احترام الحريات وسيادة الشعب، وأن يكون لمصر كلها لا لجماعة أو تيار سياسى -أتحدث عن نائب الرئيس المستشار محمود مكى- فقبل أن تنشر الصحف ما نشرت عما جاء فى حواره مع رؤساء تحرير الصحف، استمعت إليه طويلًا يرد مخاوف كثيرين، قمت بنقلها إليه، حول مخاوف الجماعة الصحفية من المحاولات المستميتة والمريبة لاغتيال الحريات وتفصيل دستور لا يستوعب جميع مكونات النسيج الوطنى والمقومات الأساسية، فكان موقفه الرافض واضحًا وقاطعًا، وما أكثر الأمناء ومن تمتلئ بهم مصر من طاقة وقوى بشرية قادرة على إيقاف أى مد يريد تغيير البطاقة والهوية والمكونات الأصيلة لها. ■ تكتب الشعوب دساتيرها لتضع وثيقة تلاحم وتقارب وطنية.. تكتبه لتدعم وتقوى نسيجها الوطنى، تكتبه لتسد جميع الثغرات التى يمكن أن تتسلل منها أسباب للفرقة والضعف والصراع والتهديد والترويع لمكون من مكونات نسيجها الحى، تكتبه لتعظم تاريخها وحاضرها ومستقبلها.. تكتبه لتحرر وتؤمن أجيالها لتنافس وتبدع وتحلّق.. تكتبه لتمنع تغوّل سلطة أو صناعة ديكتاتورية فرد أو ديكتاتورية مكون من مكوناتها الحية وتحوله إلى ورم فى جسد أمته.. تكتبه لتضع أسس وضمانات سيادة الشعب.. ويبدو أن هناك مَن لا يريدون كتابة وثيقة حاملة وضامنة لاستقرار وطنى بجميع أبنائه، ولكن يحلمون بصناعة قنابل تنفجر فى الماضى والحاضر والمستقبل! ملحوظة: بمناسبة الإضرابات التى تملأ مصر -هل قرأتم مرتبات الأطباء الشبان وجموع العاملين- أين الإجراءات التى تعطيهم بدايات للإمساك بخيوط الأمل وكيف نقنعهم بكل هذا العجز عن استرداد أنصبة من ملياراتهم المنهوبة وشركاتهم المسروقة، ونحن ما زلنا ندلل السارقين واللصوص والقتلة ونحميهم باسم العدالة والقانون!