يقال إن مصر الحالية تتوجع ولا تنام الليل، فلما أضناها الألم حجزت عند طبيب أمراض نساء مشهور وذهبت إليه فى عيادته المزدحمة الكائنة بباب اللوق، ولأنها «مصر» وليست أى حد فقد تفضل الدكتور وتكرم عليها وأدخلها بسرعة إلى حجرة الكشف حيث سلَّم عليها وشد على راحة يديها بود وحرارة ظاهرين لمدة طالت أكثر مما ينبغى مما جعل الشكوك تساورها فى أغراض الطبيب الشاب وحقيقة مآربه، إذ ظنت بصراحة أن الولد ربما يعاكسها وله فيها مآرب أخرى، لكن سرعان ما تبددت شكوك مصر وخابت ظنونها، فقد ترك الطبيب يدها تسقط فجأة من يديه وشمر عن ساعد الجد، ومن دون إبطاء شرع يفحص حالتها ويقلب فى بدنها ذات اليمين وذات اليسار ثم نظر مليًا فى نتائج تحليل العينات وتأمل كثيرا فى صور أشعة «إكس راى» العادية وأشعة الرنين المغناطيسى الغالية غير العادية، وفى النهاية كان تشخيصه الذى لم يتردد فى مصارحتها به، أنها تعانى أعراض مرض نادر يدعى «فيض المزايا العكسية» ويعرف اختصارا باسم «فيض العكوسات».. وإذ سألت السيدة مصر الأستاذ دكتورها: يعنى إيه سيادتك الكلام ده.. طمنى الله يكرمك؟ قال لها الدكتور: شوفى يا حاجة، أنا زى ابنك ومش ح اخبى عليكى.. حضرتك عندك حاجات وإفرازات كتيرة مالهاش أى لازمة، بل بالعكس مضرة وقاتلة وقد تستعجل حلول أجل جنابك.. يا خبر أسود ومنيل بستين نيلة.. إفرازات إيه دى يا ابنى؟! تنهد الدكتور وزفر زفرة حارة ثم طفق يقول: يعنى مثلا حضرتك تعانى وانتى قاعدة قدامى دلوقتى من إنتاج زائد ومتفاقم جدا من «الحكمة الرئاسية» القديمة إياها، وبدرجة تفوق بمراحل الحدود المسموح بها فى اتفاقية «كيتو» العالمية لضمان نظافة البيئة الأرضية من سموم الرياء والنفاق الرخيص.. - يا سلام.. - آه وعهد الله زى ما باقول لحضرتك كده.. ثم إن سيادتك عندك حاليا مستشارين رئاسيين أكثر (تقريبا) من عدد السكان، وفائض إخوان وسلفيين ولا «مستقبلى» واحد يوحد ربنا، كما أن لديك لجنة أو «زائدة» دستورية سرطانية متأخرة وخطيرة جدا قد تقتل حضرتك وتعجل بذهابك للقاء وجه رب كريم، وأيضا يسرح فى جسم سيادتك قطعان متوحشة وخطرة من «الفتوجية» ودعاة جدد وقدامى أكثر من عدد المؤمنين المتقين، ولديك أئمة نجوم ومشهورون متخلفون ومظلمون وبياعو دين أكثر من عدد المصلين، ومصلون بهوات يخرون ساجدين أمام الكاميرات من ثقل أوزارهم، وعند حضرتك مسلسلات بعدد المشاهدين، ومغنون أكثر من المستمعين، ومتحرشون أكثر من المتزوجين، ويعيش فى ربوع سيادتك بؤساء وجوعى وعرايا أكثر كثيرا ممن يأكلون ويلبسون.. ومحتكرون لا منتجون، وأطفال شوارع أكبر من طاقة كل الطرقات والشوارع، وعندك مليارديرات نشالون، ونشالون وحرامية غسيل صاروا مليارديرات، كما أن حكامك الجدد كما القدامى تماما، ولا فرق بين المورثين والوارثين سوى اللحية المسترسلة والزبيبة المتحجرة.. وأخيرا وليس آخرا، فإن صدر سيادتك مثقل يرزح تحت فائض «زبالة» يكفى لتقبيح وتوسيخ وجه كوكب الأرض كله على الأقل. انتهى كلام الدكتور لمصر، وكان عبد الله الفقير قد قرأ وهو فى المهد صغيرا رواية هربرت ويلز «آلة الزمن» التى تحكى عن عالِم اخترع مركبة قادرة على الوصول إلى المستقبل، فلما امتطاها وعبر بها العصور وصل إلى نقطة زمنية، رأى فيها كيف انحط الجنس البشرى وانشطر إلى جنسين منفصلين شائهين ومشوهين بعدما تراكمت عبر الأزمنة وتعمقت المآسى والفوارق الطبقية بين الفقراء والأغنياء، وأضحى لكل منهم نسل وسلسال يختلف كليا عن نسل وسلسال الآخر، فالأغنياء تحولوا من فرط الرفاهية وحياة النعومة والكسل إلى جنس ضعيف غبى يسمى «أيلو»، أما الفقراء فقد استحالوا جنسا مختلفا يشبه الحيوانات المتوحشة يسمى «مورولوك»، وقد هبطوا من جحور البؤس التى كانت تأويهم على سطح الأرض إلى العيشة بالكامل تحتها، لكن جنس الفقراء المتحول هذا يستغل فى لحظة قوته الوحشية ويأكل جنس الأغنياء الضعيف الغبى فى انتقام تاريخى، يولد من رحمه جنس ثالث أكثر تشوها من جنسى «أيلو» و«مورولوك» .. والعياذ بالله.