خلاصة ما كتبته أمس، أن الست «الجماعة» السرية التى تحكمنا حاليا، ورثتنا حضرتها واستلمتنا من الأستاذ المخلوع وليس فى ترسانة القيود التشريعية الرهيبة الكابسة على أنفاس المصريين وتكبِّل حقهم الطبيعى فى التعبير والتمتع بصحافة وإعلام حر، أى بنود قانونية تسمح أو تيسر للحكومات (من الناحية النظرية على الأقل) أن يصل تضييقها وبطشها لدرجة إغلاق الصحف نهائيا أو تعطيلها مؤقتا أو مصادرة بعض أعدادها، كما أشرت إلى أن نضالنا جيلا خلف جيل أسفر قبل الثورة بسنوات قليلة (عام 2006) عن إدخال حزمة تعديلات محدودة على قانون العقوبات بموجبها جرى إسقاط وحذف بعض الصياغات الشاذة واستبدال الغرامة المالية بعقوبة السجن فى عدد قليل من البنود، أهمها البند المتعلق بجريمة «السب والقذف». طبعا نحن نعرف أن جعبة القمع والقهر بقيت متخمة بعشرات الحيل الشيطانية والطرق الالتفافية التى توسل بها نظام مبارك أحيانا للقفز على تلك المكاسب ومحاولة تخطى المحظورات القانونية لبعض صور العدوان الفج على حريات الصحافة والتعبير، إذ رغم حظر إغلاق الصحف فإن صحفا (قليلة) أغلقت بالفعل، ورغم إلغاء عقوبة الحبس فى قضايا السب والقذف التى كانت أوسع الأبواب التى يمر منها إرهاب الصحافة والإعلام، إلا أن سيف الحبس ظل مشرعا بقوة ربما أكبر مما كان قبل التعديل المشار إليه، إذ شهدت الفترة التى تلته هجرة جماعية ملحوظة من بند «السب والقذف» إلى بنود عديدة أخرى تفتح أبواب السجن بمنتهى السهولة ولمدد طويلة أمام كل من يتجرأ ويمارس أى حق من حقوق التعبير أو أى واجب من واجبات الصحافة والإعلام المتعارف عليها فى الدنيا كلها. إذن قامت الثورة ونحن على هذا الوضع، نمارس حرية كلام وتعبير كبيرة وواسعة، لكنها حرية «عرفية» فقيرة وهشة وعارية من أغلب الكفالات والضمانات القانونية وتعتمد فقط على قوة الأمر الواقع وجسارة وشجاعة قطاع من الصحفيين والكتاب والمثقفين، ليس كبيرا جدا لكنه صلب ومؤثر ومتمتع بتعاطف هائل من الرأى العام.. لقد داعب خواطرنا أمل رائع بأن فجر الحرية بزغ وبدد ظلمة الليل الذى طال، غير أن حصاد الثورة سرعان ما رأيناه يسقط (عمدا وبالتآمر) فى حِجر قوى وجماعات تعادى (بالعقيدة الفاسدة وبسبب التربية فى ظلام الكهوف) أغلب منجزات مسيرة التحضر والترقى الإنسانيين، خصوصا حقوق وحريات الناس، لهذا لما هيمنت هذه على أول برلمان منتخب بعد الثورة شهدناها تهرتل وتثير الضجيج وتتحدث فى توافه وسفاسف وبلاهات مخجلة ولا تكاد تقترب من أى أمر يخص مصالح خلق الله، ويلبى طموحاتهم ويحقق الأهداف التى ثاروا من أجلها، خصوصا هدف الحرية، ولهذا بدل أن يستخدم ذلك البرلمان الكسيح الذى اتهم نفسه بالثورية (زورا وبهتانا) سلطته فى إزالة ترسانة العفن التشريعى المقيد للحريات، حافظ عليها وأبقاها، بل لو كان المولى تعالى، أمد فى عمره قليلا لكان أغنى هذه الترسانة وحشر فيها المزيد من القيود وآيات الشذوذ. غير أن ستر ربنا الذى أدركنا عندما اندفن برلمانهم بدرى، يحاولون الآن تجاوزه وتحديه بغلظة وجلافة لا يصدقهما عقل، فقد بلغ بهم التهور والجنون إلى حد العمل على «دسترة» القمع وتقييد الحريات وجعلهما أوامر وتكليفات دستورية عن طريق نقل الترسانة آنفة الذكر، من التشريعات والقوانين إلى السكن فى بنود وأحكام الدستور شخصيا (!!) ليس هذا فحسب وإنما بحثوا ونقبوا فى مزبلة التاريخ لاستعادة النفايات التى كنا نجحنا فى الخلاص منها (مثل إغلاق الصحف وتعطيلها ومصادرتها، وإعادة عقوبة الحبس فى السب والقذف) وإلباسها جميعا حصانة دستورية.. هذا ما تقوله صراحة الصياغات العفنة المتسربة من المغارة المعتمة التى يطبخون فيها دستور مصر حاليا!! أما الصحافة ووسائل الإعلام العامة المملوكة للشعب فيجاهدون لإبقائها دستوريا أسيرة المحبسين اللذين ما زالت تكابدهما، أى التبعية لأى سلطة أو عصابة تسطو على حكم البلاد، والقابلية الدائمة للاستخدام كوسائل «إعدام» للحقائق ومنصات إطلاق للنفاق فى الحكام.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.