(1) لو افترضنا أن فرانسيس بيكون يعيش معنا فى مصر، وعلم بظاهرة التحرش. ماذا سيفعل؟ قبل أن يقدم على أى خطوة لا بد أن ينسى كل آرائه السابقة عن الموضوع، سيعتبر نفسه كائنا فضائيا. ثم سيعاين ويلاحظ ويدرس الظاهرة فى ثلاث خطوات. أولا: سيجمع الحقائق (لا الآراء) عن مجموعة من الدول بعضها يعرف الظاهرة وبعضها لا يعرفها، مواقعها الجغرافية، أعداد سكانها، حالتها الاقتصادية، نسبة المرأة إلى الرجل، ثقافاتها.. إلخ. ثانيا: سيضع هذه الحقائق (العوامل) فى جداول مقسمة كالتالى: العامل موجود، العامل غائب، العامل موجود بدرجة ما. ثالثا: سيستبعد العوامل التى يلاحظ أنها غير مؤثرة. سيستبعد، مثلا، العوامل المشتركة فى جميع البلدان، لأن هذا معناه أن العامل المذكور غير مؤثر. بإحصاء تكرار العامل فى البلاد التى تشهد الظاهرة وبإحصاء غيابه عن الدول التى لا تشهدها سيستنتج أن هذا عامل مساعد عليها. والعكس بالعكس. (2) هذا المنهج الذى بسطته بقدر الإمكان يعرف باسم «المنهج العلمى فى التفكير»، ويسمى أيضا المنهج البيكونى نسبة إلى صاحبه. أصول الفكرة، كغيرها من الفلسفة الإمبريقية التجريبية، موجودة عند أرسطو وأحياها العرب مع حركة الترجمة والفلسفة. لكن بيكون أعطى المنهج ثوبا جديدا، حوّله إلى خطوات واضحة لملاحظة «الحادث بالفعل». لاحظى هذه العبارة جيدا «الحادث بالفعل». المنهج التجريبى العلمى معنىٌّ بالدرجة الأولى برصد الظواهر الحادثة، وليس الحديث عن حالات افتراضية. تذكرى فرانسيس بيكون المتوفى قبل نحو أربعمئة عام، كلما تكررت حوادث التحرش عاما بعد عام ولم يتحرك أحد لفهم الأسباب والتعامل معها. ستفهمين لماذا ابتعدت فى حديثى عن التنوير عن المنجزات العلمية. لأن هذا بالضبط ما أقصده بالفرق بين المجتمعات الكتابية، التدوينية، التى تدرس وتراجع وتقوم، وبين المجتمعات الأمية التفكير. الفارق بين الاثنين ليس التكنولوجيا. الفارق هو طريقة التفكير. فلا يتبادر إلى ذهنك، من فضلك، العلم والاختراعات حين تسمعين عبارة «المنهج العلمى فى التفكير»، الموضوع أوسع من ذلك بكثير. هل توقف الإنسان عند هذا الحد؟! أبدا. لقد تطور المنهج التجريبى، ودخلت فيه فكرة الافتراض والنظرية. فى ثقافة الإنسان لا شىء مقدسٌ، ولذلك تتطور. فى ثقافة المجتمعات الكتابية لا شىء نهاية المطاف ومنتهى العلم، ولذلك تتطور. (3) تقويم طريقة التفكير أدى إلى توافر الحقائق عن مختلف الموضوعات والظواهر. جعل المجتمعات الأوروبية تبنى أنظمتها السياسية والعلمية الحديثة على قواعد راسخة. وشيوع فلسفة اختبار الحقيقة جعل المجتمعات الأوروبية تطور تعليم أفرادها. واتساع طبقة المتعلمين التى تستطيع «التمييز بين الحقيقة المثبتة وبين الكذب المحبب» جعل صوت المطالبين بالحقوق أعلى، وصوت الرافضين لاستعلاء بشر عليهم -تحت أى مسمى- أعلى. وعدد من يمكن خداعهم وسياقتهم كالقطيع أقل. هذا فارق رهيب بين الحداثة الغربية التى نبتت من الجذور، وعلى أكتاف الفكر النقدى، وبين «الحداثة» الروسية الشيوعية المفروضة من أعلى. النظام الشيوعى الستالينى أراد نشر علوم «المتعلمين» ولكن بطريقة الأميين، بالتلقين، بوجهة النظر الواحدة، بقمع المختلفين والمخالفين، بفرض «حقائق مقدسة» فى ما يخص السلطة والمجتمع. بالنسبة إلىَّ هذا مهم جدا، وأنا أقترب من ختام السلسلة. مهم لتوضيح فكرة «الأمية» فى مقابل الكتابية. مهم جدا جدا جدا، فى هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ بلدنا. مهم أن نعى ضرورة تلازم شقى التطور. الشق الأول وهو الأهم هو نمط التفكير، حريته، قدرته على المراجعة والنقد والتقويم، فى ظل مجتمع ديمقراطى حر. والشق الثانى، وهو مجرد ثمرة، هو «المعارف». من أجل ذلك أفردت لذلك الشق الأول، كل سلسلة التنوير وأهملت ما عداه. لقد كان النظام الشيوعى صورة مرآة للدولة الدينية، وصورة مرآة لنمط العلاقات فى المجتمعات الأمية. كتاب مقدس، حاكم مُلهَم، بطانة من المُنظِّرين، ثم شعب يُلَقَّن المعارف تلقينا، ويُحَدَّد له ما يقرأ وما لا يقرأ. ولذلك «فار»، وعلا، ووصل إلى القمر، ثم انهار سريعا. هل يذكرك هذا بشىء؟ فكِّرى. التفكير أهم من القراءة. هناك مثال آخر لدولة متقدمة وقعت فى نفس المصيدة، ارتدت بعد الحضارة إلى حضن الأمية، وشعاراتها «المقدسة». غدا نطل عليها!