بالنسبة إلى جون لوك، الإنسان يُولد «أبيض يا ورد» ثم يُكَوِّن معارفه من خبرته، بالتجربة والخطأ. وبالتالى فهو يرفض فكرة أن الإنسان يُولد عالمًا الخير والشر بالفطرة. الفضائل والنقائص ليست قيما ثابتة، بل تتغير من مجتمع إلى آخر، من بيئة إلى أخرى، ويجب أن تخضع للمراجعة والنقد والتقويم. هذا الاتجاه فى الفلسفة يسمى الاتجاه الإمبريقى (التجريبى) وهو يمتد فى أصوله إلى أرسطو، مرورا بابن سينا. سأكتفى نظريا -وسامحنى يا جون لوك على الإخلال- بهذا البوكيه الصغير، فإن أعجبك، تعلمين الطريق إلى البستان. الفلسفة ثقيلة، لكنها عميقة الأثر. السؤال المهم: ما القيمة العملية لهذا؟ والإجابة أنه يؤسس للتسامح، الدينى، والعرقى، والاجتماعى. كيف؟ لأنه ينفى فكرة أن المخالفين شريرون بالفطرة، بل أبناء بيئتهم وظروفهم الاجتماعية، وما تعلَّموه. وبنفس المنطق يمهد لفكرة المساواة بين الأجناس. لاحظى أننا نتحدث عن أدبيات صدرت حول عام 1690. ضعيها فى هذا السياق لكى تفهمى عظمتها وتقدميَّتها. وأثرها فى مكافحة العنصرية، والتمهيد للديمقراطية المبنية على المساواة أمام القانون. إبداع جون لوك الآخر، الممتد، كان تأثيره على أسلوب التعليم. لقد شخَّص افتقار معظم البشر إلى المنطق بأنه يعود إلى تغذية الفرد فى صغره بمعلوماتٍ، يربط بينها بطريقة خاطئة. شىء قريب إلى ما نسميه نحن «الحشو». وبعد التشخيص اقترح العلاج: أن يتركز التعليم فى الصغر على إكساب الطفل مهارات التفكير المنطقى، وكيفية الوصول إلى استنتاجات. لجون لوك مقولة لا تكفيها المساحة، فاسمحى لى بالتصرف فيها، دون أن أُفقِدها جوهرها، ومن فضلك فكرى فيها تفكيرا عميقا: حقنُ دماغ الشخص بأفكار إنسان آخر لن يجعله أكثرَ علمًا، حتى لو كانت الآراء التى تلقاها صحيحة. الفقه والفهم واللماحية التى جعلت لهذه الآراء قيمة تختفى حين نتلقاها كمعارف جاهزة، وأقوال منقولة. قبولنا للمعارف بهذه الطريقة يصير قبولا لما يصدر عن أصحاب الأسماء الموقرة. لكننا فى الحقيقة نتخلى عن استخدام عقولنا، كما استخدموا عقولهم، لكى نفهم كما فهموا. كأننا لا ندرك أن عملية التفكير وأسلوب الفهم، وليس الرأى الذى توصلوا إليه، هو ما منحهم مقامهم. «أرسطو كان بلا شك رجلا ذا معرفة، لكن أحدا لم يقل إنه هكذا، لأنه تبنى -مغلق العينين- رأىَ شخص آخر، ثم ردده». قارنى بين هذا الفهم وطريقة الأميين الذين يحفظ الواحد منهم آراء العظماء ويسردها قولا بعد قول. نفس عقلية التلقين المنعكسة فى مدارسنا. قولوا ورايا يا عيال: «زَ رَ عَ». زَ رَ عَ. «زرع». زرع. علوا صوتكو يا عيال: «خرج التلميذ من المدرسة». خرج التلميذ من المدرسة. «اتنين فى واحد باتنين». اتنين فى واحد باتنين. «يا لهوى يا لهوى يا لهوى». يا لهوى يا لهوى يا لهوى. نيوتن، وجون لوك، على عظمتهما، كانا نبتًا لبذرة منهج التفكير التى وضعها فرانسيس بيكون (توفى 1627، قبل 5 أعوام من مولد جون لوك، وقبل 15 عاما من مولد إسحق نيوتن). لقد كان هذا الرجل راديكاليا فى تفاؤله، وفى رهانه على المستقبل، لا يساوم عليه، ولا يسمح بالمساومة عليه. من هذه القناعة أطلق بيكون، بلغته الرصينة، سهام انتقاده نحو المخلصين للتقاليد ومعارفها، المعرقلين للتطور، الذين «لديهم ميل إلى بذل جهود شريرة لتحجيم سلطة الإنسان على الطبيعة، ولإنتاج نوع من اليأس مصطنع ومتعمد. هذا اليأس بدوره يشتت ما يبزغ من أمل، ويقطع براعمَ العزيمة وأوتارَها، ويجعل الناس يحجمون عن المخاطرة بتجريب أى شىء». إن خلف كل نهضة عظيمة أناسًا يتحلون بشجاعة المخاطرة، لا يكن لديك شك فى هذا. وفرانسيس بيكون أحد هؤلاء. لقد أشاع كصاحبيه الإنجليزيين ثقة فى قدرة الإنسان على التغيير. اقرئى هذا المقطع من كتابه عن سيرة حياة هنرى السابع يشخص فيه أسباب التخلف، وتفكَّرى فيها، وانقديها: «لقد أُبقى البشر متخلِّفين عن التقدم فى العلوم -وكأنهم تحت تأثير لعنة ما- بتقديس القديم، وبسلطة أناس يُعتَبرون عظماء فى فلسفتهم، ثم بالرضا العام عما هو شائع». الرضا العام عما هو شائع بالنسبة إلىّ كارثة الكوارث. فما من قاتل للمجتمعات أخبث من الأكاذيب المريحة. لقد وضع بيكون منهجا حرر أمته، والراغبين من البشر، من هذا القاتل المحتال الناعم.. غدا نرى.