استخدمت سابقا كلمة «كتابة» كمقابل لكلمة أمية تجنبا لإحداث التباس. أما وقد جئنا ل«التنوير»، فلا بد أن نكون على نور. الكلمة المقابلة للأمية فى اللغة الإنجليزية هى «literacy»، لو أحببنا أن نترجمها إلى العربية فالأفضل أن نستخدم «الكتابة ذات القيمة»، فالمصطلح أقرب فى معناه إلى ما نسميه نحن «الأدبية» منها إلى ما نسميه الكتابة. قلت سابقا إن الإنسان قد يكون قادرا على الكتابة، بمعنى نقش الحروف، لكنه أمىٌّ، أمىٌّ فى معارفه. لقد كان التنوير فى أصله وأساسه انتصارا ل«الكتابة ذات القيمة»، فى الفلسفة والعلم والأدب، فى مقابل الأمية ورفيقتها «الكتابة الواهية». ليس صدفة أبدا، أن عصر الإصلاح الدينى -السابق لعصر التنوير- قد تزامن مع اختراع الطباعة. الكتاب المنسوخ باليد قليل العدد بالطبيعة، وبالتالى لن يقتنيه سوى خاصة القوم، غالبا الأغنياء. أما السواد الأعظم من الشعب فلن يفكر فيه. وهو بالتالى مكتوب لجمهوره (لاحظى!)، غير معنىٍّ بالانتصار للعوام ولا توعيتهم، بل معنىٌّ بإرضاء من سيدفعون فيه أموالا وإلا تجاهلوه. القس مارتن لوثر اختلف مع الكنيسة بعد أن أرسل رسالة يعارض بها صكوك الغفران. عبارة «صكوك الغفران» تستدعى فى أذهان المسلمين ممارسة غريبة، تحدث فى بلاد بعيدة، لا علاقة لهم بها. ولكنها فى الحقيقة وعد بالمغفرة فى مقابل التصدق للكنيسة، بافتراض أن هذه الصدقات ستستخدم لبناء مزيد من «بيوت الرب»، أو لعلاج الفقراء، أو أو أو. لا أقول إن الوضع فى بلاد المسلمين وصل إلى هذه الدرجة، بل أقول إن صكوك الغفران لا تبتعد كثيرا عن فتوى ك«ذبح ستين ناقة فى مقابل أن تجهض جنينا مكتملا». هذا مجرد اختلاف «كمى» فى علاقة متكررة بين قادة الأميين من رجال الدين، والأغنياء، تأخذ فى كل مكان صورة غير الآخر، واسما غير الآخر، ودرجة غير الآخر، لكنها فى جوهرها شىء واحد. دور يقوم به رجال الدين لإراحة ضمائر الأغنياء الذين يجودون بالمال، وتحت السطح وعد بكف أذى أتباعهم الأميين، بصرف أنظارهم بعيدا. ليس غريبا إذن أن الثورات الأوروبية التى بدأت بشعارات الإخاء والمساواة، ثم صاغت هذه القيمة فى صيغة سياسية، اختارت لها من تاريخها الفلسفى اسم «الديمقراطية»، ليس غريبا أن هذه الثورات حدثت بعد إسقاط السماسرة، بطانة حماية السلطة التى اسمها رجال الدين. التنوير الأوروبى نجح عبر قرون فى الوصول إلى صيغة «الإخاء والمساواة/الديمقراطية»، بينما أخفقت فى ذلك المجتمعات الأبوية الشرقية بقيادة روسيا الستالينية، لأن التنوير الأوروبى بدأ «صح»، من التعليم، من الجذور. أما روسيا الشيوعية فاستبدلت بالفاشية الإقطاعية الدينية «الأبوية»، الفاشية الشعبوية العلمانية «الأبوية». وضعت صفة الأبوية بين قوسين فى الجملتين لكى أشير إلى سلطوية العلمانيين والدينيين، إذ يستغلون «بساطة» الأميين وقلة وعيهم، ويسوقونهم ترغيبا وترهيبا كأنهم أطفال (هل ترتد مصر ككرة بين حائطين أيضا؟!). استخدم مارتن لوثر إذن الطابعة فى طباعة الكتاب المقدس بعد ترجمته. جعل المواطن الألمانى العادى يقرأ بنفسه ما كان سابقا يعتمد فيه على رجل الدين. لأن الكتاب المقدس كان مكتوبا بلغة لا يعرفها سوى رجال الدين. ثم استخدمت الطابعة فى إصدار منشورات على طريقة الحركات السياسية، توعِّى البسطاء بحقوقهم. لن أطيل مع لوثر فقد سبق لى الحديث عنه فى مقال سابق (نغمة الشيطان نشرت النور الإلهى)، كما أنى لا أُمَجِّده، إنما أتحدث عن الجانب الإيجابى من مساهمته فى التاريخ. فى المجتمعات الدينية لا تَقَدُّم إلا بالإصلاح الدينى، والتعليم الذى يشجع التفكير وينبذ التلقين. أصدقاء لوثر من الفنانين رسموا رسوما توضيحية بسيطة واستخدموها فى المنشورات. كان هذا عام 1517، نفس العام الذى احتل فيه العثمانيون مصر. إنما كان لزاما على مصر أن تنتظر ثلاثة قرون كاملة حتى تعرف الطابعة مع الحملة الفرنسية. ومع الطابعة بدأت عندنا أيضا حركة تنويرية وحركة إصلاح دينى، لكن الشعبويين -قادة الأميين- أجهضوها وهى لا تزال تتعثر فى أولى خطواتها. الإسلامجية نشروا معارف قديمة بالتلقين، والعسكريون نشروا معارف «حديثة» بالتلقين. كلاهما صنع مجتمعا أميا. سنفهم ذلك معا حين نصل إلى جون لوك.