(1) ما الذى يشغلك أنت الآن؟سألته فى آخر لقاء. وأجاب بسهولة: «العمر». استفسرت. فأضاف بالسهولة نفسها: «كبرت. أصبحتُ فى عمر والدىّ، ولم يعد أمامى أشياء مؤجلة». إنه اللباد. (2) مثل محارب قديم يزور أرض المعركة بعد انتهاء الحرب، يمضى إلى مكتبه. عملاق فى مدينة كرتون، بناها بالأمس ويفكر فى هدمها اليوم. يحمل عصا بنية، لكنها لا تلمس الأرض. ودولابه يغصّ بأقلام وألوان... لم يتغير اللبّاد! ما زال شغوفا بالجديد، من دون أن يخبوَ ولعه بالقديم. (3) يبدو غريبا هنا، فى مكتبه، مع أنّه يعرف كل تفاصيل المكان. غربته ليست وليدة البعد بل التطرف فى الاقتراب. هذا الرجل مهووس بالتفاصيل، وهو سر اختياره فنّ الجرافيك. ذلك الفضاء الساحر الذى لعب فيه كل الألعاب: رسم الكاريكاتير، تصميم المجلات والكتب، مشروعات مختلفة تشتغل على العلاقة بين الخطوط والفضاء والكلام. (4) المجلات غيرت عالم الطفل الوحيد الذى جاء بعد خمسة أطفال كلهم ماتوا. عاش الأهل فى حالة خوف دائمة عليه. أحاطوه برعاية خائفة، وعلقوا فى رقبته حجابا لمنع الشرور. عندما كبر اللباد وفتحه، اكتشف أنه يحتوى على رأس هدهد وطلاسم مكتوبة بلغة غريبة، ومربعات ومثلثات ورمل. اكتشافه الأهم كان مجلة صدرت مطلع عام 1952. اسمها «سندباد». بطلها الصبى الرحالة الخارج من عالم «ألف ليلة وليلة»، جاء مفعما بالحيوية ومشحونا بطاقة خفيّة، فحفر مكانه فى ذاكرة الطفل ذى الاثنى عشر ربيعا. وهناك «زوزو... المغامر»، أحبّه اللباد بطلا تنتهى مغامراته بالفشل. فهو مثله اتخذ المغامرة متعة وأسلوب حياة. (5) المعارك التى خسرها اللباد كثيرة، لكنه كان يخرج كل مرة بإنجازات على طريق تحرير الخيال من العبودية على أشكالها. (6) محيى الدين اللباد يمتلك كل مواصفات الكائن السياسى. يتابع ويحلل ويناقش باستمرار، وهو منخرط فى القضايا العامة. لكنّه لا يرى نفسه سياسيا. عندما انضم إلى تنظيم شيوعى، فعل ذلك لأنه كان يتصور «أن كل الفنانين شيوعيون». فهو متمرد على الصور النمطية التى تكوّن الوعى، وتتحكم فى نظرة الناس إلى العالم. لا يعادى الحكام، بقدر ما يتصدى للخيال العقيم. هناك حلم متكرر يراوده. يحلم أنه يركل عبد الناصر ثم يجرى. يحب الريس قليلا لأنه «شفى غليل المصريين». زوجته ترى أن محبته لجمال عبد الناصر وليدة التشابه بينهما على مستوى «جنون العظَمة». السادات بالنسبة إليه «أسوأ أيام» مصر، وكامب ديفيد «لن تقوم البلد من بعدها». (7) كان محيى الدين أول قاهرى فى العائلة المنتقلة إلى العاصمة الكوزموبوليتية. وأول مَن لبس بنطلونا. فالأب الأزهرى من قرية تابعة لمدينة دسوق، مدينة المشايخ النائمة فى رحاب ولىّ صوفى اسمه على اسم المدينة. كان متحررا، عاش فى زمن الشيخ عبد العزيز البشرى الذى كان يشرب الخمر. «زمن مختلف تماما. أمى كانت تخرج مع أبى حاسرة الرأس، وبملابس حديثة رغم أنها لم تدخل مدارس. كان لدى أهلى شغف بالحداثة، لكن أبى أدرك أنه لن يكون قاهريا، ولا حديثا تماما، فترك لنا الباب مفتوحا بمرونة، وتابع من بعيد». (8) الشاب المسكون بخيالات أخرى، ترك كلية طب الأسنان قبل نهاية العام الجامعى الأول. وسار خلف بيكار، أشهر رسامى الصحافة فى الأربعينيات والخمسينيات، وحتى رحيله أوائل القرن الحالى. حسن فؤاد الرسام والمصمم والسياسى «كان الخطفة الثانية». قاده إلى عالم مدهش من الرسم المعبر من دون كلام، والتصميم الذى يكاد يغنى عن الحكاية. مشاغله كانت تذهب أبعد من الرسم، إلى الخطاب البصرى، والرسالة التى ينطوى عليها ما تنتجه وسائل الدعاية والتواصل الجماهيرية. منذ الطفولة كان مولعا بطوابع البريد والتمغة المصرية. تذكرة الأوتوبيس، إعلان سجائر أو مسرحية. علبة كبريت، العملة الورقية، ورقة اليانصيب، لافتات الدكاكين، الإعلانات على الجدران... «هذه العلامات تكوّن صورة للزمن». (9) مكتبه حتى اللحظة الأخيرة كان ورشة منظمة، وهو «أسطى» وشغّيل لا يستسلم للرفاهية التى تفترضها شهرته فى عالم صناعة الكتب. يتعامل مع حرفته بمنطق «العاشق»، أكثر منه «معلما محترفا». ورشته صومعة وقاعدة خلفيّة، فاللباد هارب فعلا. يسكن ويعمل فى «دولة» مصر الجديدة، البعيدة عن قلب العاصمة. يقيم فى جزيرة خاصة، رغم أنه ابن القاهرة القديمة بشوارعها الصاخبة ومزاجها الحاد. المترو ومطابع الزنكوغراف فى شارع محمد على. اللباد غريب يعمل فى مهنة مرتبطة حسيًّا بالجمهور