مثل محارب قديم يزور أرض المعركة بعد انتهاء الحرب، يمضي إلي مكتبه. عملاق في مدينة كرتون، بناها بالأمس ويفكر في هدمها كل يوم. يحمل عصا بنية، لكنها لا تلمس الأرض، ودولابه يغصّ بأقلام وألوان... لم يتغير اللبّاد! شغوف بالجديد، دون أن يخبوَ ولعه بالقديم. هكذا رأيته آخر مرة. لم أعرف أنها الأخيرة، تذكرته منذ أيام قليلة، زارتني صورته، ولم أعرف أنها تلويحة وداع . بدا في الزيارة الأخيرة غريباً، في مكتبه، مع أنّه يعرف كل تفاصيل المكان.. غربته ليست وليدة البعد بل التطرف في الاقتراب، هذا الرجل مهوَّس بالتفاصيل، وهذا سر اختياره فنّ الجرافيك، ذلك الفضاء الساحر الذي لعب فيه كل الألعاب: رسم الكاريكاتور، تصميم المجلات والكتب، مشروعات مختلفة تشتغل علي العلاقة بين الخطوط والفضاء والكلام. يعلن بشيء من الفخر: «اخترت طريقي وأنا في الثامنة»، لكن كيف يحلم طفل عاش في الخمسينيات بمهنة لم تعرف علي نطاق واسع إلا مع نهاية القرن العشرين؟ بدلاً من الإجابة، يحكي الفنان الكبير عن غرامه بأوراق الصحف: أشكالها وروائحها، وملمس المجلات والكتب: «كُتب كامل الكيلاني كانت تناديني، شكل صفحاتها يحكي لي حكاية لم أعرف سرّها إلا عندما كبرت».المجلاّت غيّرت عالم الطفل الوحيد الذي جاء بعد خمسة أطفال كلّهم ماتوا، عاش الأهل في حالة خوف دائمة عليه، أحاطوه برعاية خائفة، وعلقوا في رقبته حجاباً لمنع الشرور. عندما كبر اللباد وفتحه، اكتشف أنّه يحتوي علي رأس هدهد وطلاسم مكتوبة بلغة غريبة، ومربّعات ومثلثات ورمل، اكتشافه الأهمّ كان مجلة صدرت مطلع عام1952 اسمها «سندباد»، بطلها الصبي الرحالة الخارج من عالم «ألف ليلة وليلة»، جاء مفعماً بالحيوية ومشحوناً بطاقة خفيّة، فحفر مكانه في ذاكرة الطفل ذي الاثني عشر ربيعاً. وهناك «زوزو... المغامر»، أحبّه اللباد بطلاً تنتهي مغامراته بالفشل، فهو مثله اتخذ المغامرة متعةً وأسلوب حياة. المعارك التي خسرها اللباد كثيرة، لكنّه كان يخرج كل مرّة بإنجازات علي طريق تحرير الخيال من العبودية علي أشكالها. محيي الدين اللباد يمتلك كل مواصفات الكائن السياسي، يتابع ويحلل ويناقش باستمرار، وهو منخرط في القضايا العامة. لكنّه لا يري نفسه سياسياً. عندما انضم إلي تنظيم شيوعي، فعل ذلك لأنّه كان يتصوّر «أنّ كل الفنانين شيوعيّون»، فهو متمرّد علي الصور النمطية التي تكوّن الوعي، وتتحكّم في نظرة الناس إلي العالم. لا يعادي الحكّام، بقدر ما يتصدّي للخيال العقيم. هناك حلم متكرر يراوده، يحلم بأنّه يركل عبد الناصر ثم يجري، يحب الريّس قليلاً لأنّه «شفي غليل المصريين»، زوجته تري أنّ محبّته لجمال عبد الناصر وليدة التشابه بينهما علي مستوي «جنون العظَمة». السادات بالنسبة إليه «أسوأ أيام» مصر، وكامب ديفيد «لن يقوم البلد من بعدها».كان محيي الدين أوّل قاهري في العائلة المنتقلة إلي العاصمة الكوزموبوليتيّة، وأوّل مَن لبس بنطلوناً، فالأب الأزهري من قرية تابعة لمدينة دسوق، مدينة المشايخ النائمة في رحاب ولي صوفي اسمه علي اسم المدينة. كان متحرراً، عاش في زمن الشيخ عبد العزيز البشري الذي كان يشرب الخمر: «زمن مختلف تماماً، أمّي كانت تخرج مع أبي حاسرة الرأس، وبملابس حديثة رغم أنّها لم تدخل مدارس، كان لدي أهلي شغف بالحداثة، لكنّ أبي أدرك أنّه لن يكون قاهرياً، ولا حديثاً تماماً، فترك لنا الباب مفتوحاً بمرونة، وتابع من بعيد».الشاب المسكون بخيالات أخري. نستكمل غداً