الدولة المستبدة تحتاج إلى ثلاثة أمور لا غنى عن أىٍّ منها. 1- شرعية من مصدر لا يمكن حسم الجدل بشأنه (الدم الإلهى – النص الإلهى الداعم لحاكم بعينه – النص البشرى المقدس). 2- بطانة من حائزى العلم «المهم»، تحسم هذا الجدل، وتمنح ختم التصديق على الشرعية (الكهنة – رجال الدين الذين يفسرون النص الإلهى – المنظِّرون الذين يفسرون النص البشرى المقدس). 3- كتلة كبيرة من «المؤمنين» بهذه الشرعية تستطيع أن تهزم «الآبقين» الذين يتحدون أيا مما سبق. طبِّقى هذا على مصر، على روسيا القيصرية، على روسيا الشيوعية، على أوروبا فى عصور الظلام. على أىٍّ ما شئت. وابعثى لى ربع جنيه كلما وجدتِه منطبقا. سأكون قريبا مليارديرا. كان لدى الدولة الأموية مشكلة عميقة فى الشرعية، كونها قاتلت عليًّا، وقتلت الحسين، من آل بيت النبى. وقد تغلبت على التشكيك بالقمع العسكرى والفكرى العنيف لمعارضيهم المسلحين. لكنها لم تلتفت فى أول الأمر إلى الصراع الفكرى غير المسلح الذى بدأ تحت السطح، بين «المتعلمين الجدد»، الذين يتجادلون، متسلحا كل منهم بأدلة من القرآن. وظهرت فى تلك الفترة مجموعتان رئيسيتان، القدرية، والجبرية. القدرية تقول إن الله عادل، فلا يحاسب الإنسانة على أفعالها إلا إذا أعطاها حرية الاختيار (القُدرة). أما الجبرية فتقول إن كل الأفعال مكتوبة على الإنسان. كل شىء تفعلينه أجبرك الله عليه. فكِّرى بعيدا عن الحفَّاظ الذين هم بشر مثلك، حدود معرفتهم مركزة فى مجال واحد دون غيره. أى القولين أقرب إلى العقل والمنطق؟ أيهما أدعى إلى دعوة الناس إلى ترك المعاصى وإلى السعى للتغيير بأيديهم وإرادتهم؟ أنا أقول -وهذا رأيى- إنهم القدرية، الذين يؤمنون بأن الناس مخيرون فى أفعالهم، ولذلك فإنهم مسؤولون عنها، ومحاسبون عليها. والذين يؤمنون بأن ما يحدث حولنا من أفعال الإنسان (لاحظى أنهم يتحدثون عن أفعال الإنسان وليس الطبيعة!) ليس قَدَرا لا مناص منه، يؤمنون بالإرادة، بالقدرة على التغيير، بارتباط هذا التغيير بمبادرتنا كبشر، وبأفعالنا كبشر. لقد كان هذا التفكير الوثبةَ الأولى من وثبات العقل الأمى الحديث التعلم نحو العقلانية، ونحو المسؤولية الفردية (وهذه أصل أصول الحضارة الحديثة). لكنّ فئتين عارضتا هذا. أولا: الحكام من بنى أمية، لأنه كان من مصلحتهم أن يروجوا لفكرة أن حكمهم قدر لا مناص منه، ويجب الاستسلام له. ولذلك فقد أعدم الخليفة هشام بن عبد الملك زعيم القدرية، غيلان الدمشقى (وهو بالمناسبة ابن رجل مصرى أسلم أيام عثمان)، واثنين من رفاقه، وعلق أجسادهم على بوابة دمشق، المدينة الحضر، التى ولد فيها غيلان. ثم تولت الفئة الثانية، الفقهاء والحفاظ، تشويه سمعة القدرية وإشاعة أنهم خبثاء الطويَّة، تلقوا علومهم على يد غير المسلمين، وأنهم ينكرون القدر (وليس هذا صحيحا). بل وزعموا أن النبى له عنهم حديث. رغم أن بداية ظهورهم كانت فى الدولة الأموية وبعد وفاة معاوية. مرة أخرى، ليس هذا مجالا لبحث شرعى عن عقيدة «القدرية»، فنحن نتحدث فى التاريخ والسياسة. القدرية أبناء عصرهم، أبناء حضر الشام. اجتهدوا بقدر الإمكان لكى يوقفوا هذا الانحدار الجماعى الذى نتج عن الاستسلام لمعارف الأميين، وتصورهم عن الكون، وإضافة المواد الحافظة عليها، لكى تبقى إلى الأبد. أرادوا أن يحركوا هذا الركود السياسى الآسن. هذا الاستسلام الذليل. هذا التدجين المهين لعقل الأمة، ولحركتها. وبالإضافة إلى ذلك، كانوا قادرين على محاججة الفقهاء من النص الدينى نفسه. لكن السلطة لم تكن فى جانبهم. غيلان الدمشقى دفع حياته ثمنا لهذا. أعدم على يد السلطان، لأن أفكاره كانت ضد السلطة. بينما مكفروه أنتجوا النسخة التى أرادتها السلطة، وأبقتها السلطة، النسخة التى ترينها الآن من هذه الأمة. النسخة التى لم تتطور عن العقل الأمى، ولا عن المعارف الأمية. هذا السطر القصير الذى خطَّه القدرية، بالإصرار على قدرة الإنسان الفرد على الاختيار، علَّم عليه إله العقل بقلم فوسفور ذهبى، لكى يقرأه من ينظر بعدهم فى كتاب التاريخ. غدا سنرى كيف كتب المعتزلة من هذا السطر فقرة. ثم كيف دُفنت فى أرض الإسلام. ثم كيف أحياها مارتن لوثر فى أوروبا وكتب من السطر كتابا. لا تزال أوروبا محتفظة به حتى الآن!