تدوين المعارف على يد اليهود مكنهم من تخليد وجهة نظرهم عن الآخرين. لاحظى كيف كان اليهود يسمون من سواهم «الأميين». هل تفكرت فى سبب هذه التسمية من قبل؟! فى سبب اختيار هذا اللفظ بالذات دون غيره؟! لو جعلت هذه المقالات إنسانة واحدة تفكر فى إجابة عن هذا السؤال فسوف أقبل يدى ظاهرا وباطنا. دائما هناك سؤال أول، يشبه الإشعال ignition فى الميكانيكا، بمجرد أن يحدث ينطلق الموتور – موتور التفكير. الدين يعنى -باللغة السياسية لزماننا- الشرعية. بأى معنى؟ فى زمننا إن أراد حزب أن يصعد إلى السلطة فعليه أن يكتسب شرعية من الناخبين (فى الدول الديمقراطية)، أو من التأييد الشعبى، ولو بادعاء هذا التأييد (فى الدول السلطوية). هذه الشرعية هى التى تمنحه السلطة، وهى التى تمكنه من سن القوانين التى يحكم بها البلد، ما المسموح، وما الممنوع. فى الدول الديمقراطية التى تعرف تبادل السلطة الموضوع واضح، والانتخابات هى المعيار. فى الدول التى تستولى فيها مجموعة على السلطة وتغلق الباب أمام الآخرين، تصير هذه السلطة محلا للنزاع. لماذا نذهب بعيدا. هكذا صعد الإسلام السياسى فى مصر. صعد فى ظل نزاع على الشرعية. حكم يدعى أنه يكتسب شرعيته من الجماهير، فتخرج له جماعات تدعى أنها تكتسب شرعيتها ممن أعلى من الجماهير، من رب الجماهير لا أقل. وهنا ألفت نظرك إلى ما يريد الأميون الحاليون أن يضيفوه إلى دستور مصر بجعل «السيادة لله»، لتدركى مرمى المقولة. من أين يمكن أن تُكتسب الشرعية فى العصورة القديمة؟ الدين اليهودى نازع فرعون مصر سلطته على العبرانيين. وفى إطار هذا النزاع استُخدم «كلام الرب» سياسيا لكى ينسف فرعون معنويا، بادعاء أن رب العبرانيين، الرب الحقيقى، غاضب عليه. وبادعاء أن ما يصيب البلاد من قحط بسببه وبسبب أفعاله. انظرى إلى الموضوع مليًّا. منشور سياسى بامتياز. بل ادعى العبرانيون فى الكتاب المقدس أنه لم ينقذ مصر من سنينها العجاف سابقا سوى جدهم يوسف لا سواه. ثم هددوا مصر التى «ظُلِموا فيها» بمستقبل أسود فى قابل الأيام. ملحوظة: ادعى لغة لا تعنى كذب، الأخرى زعم. هذه المقالات لا تنظر فى صدق الأخبار وكذبها، إنما فى معناها التاريخى. ثم إنك سمعت عن الحادثة المذكورة فى العهد القديم عن مضاجعة النبى لوط لابنتيه وهو سكران. هل تفكرت فى المعنى السياسى لها؟! نتج عن هذا السفاح ولدان: موآب، وبن عمون. ما القيمة السياسية لهذين الشخصين؟! نعم. إنهما -حسب العهد القديم- أصل المؤابيين والعمونيين، اللذين كان بنو إسرائيل فى حرب معهما على الأرض. وتعرفين قصة نوح والطوفان. وتعرفين قصة ابنه الذى لم يؤمن معه. من هذا الابن الملعون؟! إى نعم! إنه حام. هل تعرفين من أبناء حام حسب الكتاب المقدس؟ يخصنا منهم هاهنا اثنان. مصرايم: تنسب إليه مصر، ويشتق اسم مصر منه، وهذه التسمية انتقلت على أغلب الظن من العبرية إلى العربية. والعداوة مع مصر سبق الإشارة إليها. أما الابن الثانى فهو كنعان. أبو الكنعانيين. سكان فلسطين -«الأرض الموعودة»- الأصليين. وهنا لا يمكن أن نتجاوز عن الحكاية المثيرة للتساؤلاااااات التى يوردها الكتاب المقدس فى شأن كنعان والكنعانيين. وملخص القصة أن نوحا شرب خمرا واستلقى. فانحسر رداؤه، ورأى حام أبو كنعان (هكذا عُرِّف فى الكتاب المقدس فى ذلك الموقف) عورةَ أبيه وأخبر أخويه سام (المؤدب الحلو) ويافث. وهذان سترا أباهما. فلما أفاق نوح (لاحظى!) لعن كنعان (أى والله، ابن حام اللى شاف عورته، مش حام نفسه، حام اتلعن بعدين فى موضوع الطوفان) وقرر، وهذا هو المهم هنا، التالى: «فقال ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدا لهم (أى لأبناء سام). ليفتح الله ليافث فيسكن فى مساكن سام، وليكن كنعان عبدا لهم». المهم هو الأرض، والنزاع على الأرض. نفس ما يحدث حتى الآن مع الفلسطينيين. أما العرب، فهم أبناء إسماعيل ابن الجارية، الذى تجاوزه الرب إلى إسحق حين طلب قربانا. وسآتى إليهم فى مقال لاحق. الموضوع مجرد خناقة عائلية، صفصفت على الانتصار لأبناء يعقوب بن إسحاق (بنى إسرائيل) على أقاربهم. وقد ظل كذلك حتى القرن الرابع الميلادى. تاريخ مبنى على خناقات عائلية (لناس لابسين قطونيل وقاعدين فى أوضة مع بعض)، وعلى معارف أمية بدائية لم تؤمن بها من الأمم المتحضرة أمة واحدة. لولا أن المسيحية جاءت وحوَّلتها إلى دعوة عالمية، ثم استخدمها الأميون فى الإمبراطورية الرومانية (ومصر) حركة احتجاجية ضد النخبة. فأحيوها. كما يحدث فى كل حضارة منهارة حتى اليوم.. لكن هذا مقال لغد.