ليس الغرض من هذه الحلقة هو تفنيد مزاعم يهودية تقول إن بني إسرائيل هم أول من سكن فلسطين، فقد يدهش الكثيرون عندما يعرفون أن أسفار اليهود المقدسة لا تُنكر أبداً أن فلسطين قد سكنها العرب قبل اليهود وأثناء الفترة القصيرة التي حكم فيها اليهود وبعدها، ولكن هذه الحلقة موجهة في الأساس إلى العرب الذين يظن معظمهم أن فلسطين كانت أرض اليهود منذ البداية، ثم دخلها العرب بعد الفتح الإسلامي تماماً كمصر التي لم تصبح عربية إلا بعد الفتح الإسلامي لها. أو ما يظنه البعض أيضاً من أن سكان إسرائيل اليوم من اليهود هم أحفاد الأسباط الاثني عشر الذين سكنوا أرض فلسطين منذ القدم، فيكون ليهود اليوم حق مشروع في المطالبة بإرث أجدادهم. في السطور القادمة سنحاول بإيجاز شديد إلقاء بعض الضوء على الوجود العربي في فلسطين منذ القدم، وسنتحدث في الحلقة القادمة عن علاقة يهود اليوم بأبناء يعقوب الاثني عشر. العرب في فلسطين يذكر الكتاب المقدس في عشرات المواضع أن أرض فلسطين كانت تسكنها قبائل عربية عديدة قبل أن يدخلها يوشع بن نون بعد خروج اليهود من مصر، بل ويعترف كتاب اليهود المقدس أن تلك القبائل العربية ظلت موجودة طوال عصر القضاة وعصر الملوك. وأبسط مثال على ذلك أن التوراة قد ذكرت أن إخوة يوسف (أبناء يعقوب) قد باعوا أخاهم لقافلة تجارية من الإسماعيليين (أي العرب) كانت متجهة من فلسطين إلى مصر، مما يدلنا على أن القبائل العربية كانت تتنقل بحرية منذ القدم من الشام إلى مصر. والتوراة تمتلئ بأخبار أقوام وقبائل عربية قديمة عاشت في الشام قبل وأثناء وجود اليهود بها كالكنعانيين والأدوميين والعموريين واليبوسيين والعماليق.. واليهود قد قالوا من البداية بأن الرب قد أعطاهم أرض كنعان، أي أنهم يقرّون بأن الأرض التي سيستولون عليها هي في الأصل أرض كنعان، ولكن وجهة نظر اليهود مختلفة من الأساس، فهم لا يحتكمون إلى منطق أو تاريخ أو جغرافيا، ولكن حجتهم الوحيدة أن الرّب قد وعدهم بهذه الأرض بغضّ النظر عمن سكنها قبلهم أو بعدهم، وكل حجة تصبح بالنسبة لليهود لا قيمة لها أمام وعد مزعوم قطعه الرب لإبراهيم منذ 4 آلاف سنة! كنعان والكنعانيون تحكي لنا التوراة قصة خيالية لطيفة تقول إن نبي الله نوحا عليه السلام قد عمل بالزراعة بعد انتهاء الطوفان، وإنه قد زرع حقل عنب، وكان يصنع الخمر منها، وحدث ذات يوم أن أفرط نوح في شرب الخمر، فسكر وتجرّد من ملابسه تماماً، فدخل عليه ابنه حام فشاهده عارياً ورأى عورة أبيه، فخرج حام ودعا أخويه سام ويافث، اللذين حملا رداء ودخلا بظهريهما على نوح فستراه دون أن ينظرا إلى عورته، فلما أفاق نوح من سكره وعرف ما قام به أبناؤه الثلاثة، استنزل نوح لعنات السماء على كنعان بن حام، في حين بارك سام ويافث! يذكر سفر التكوين أول أسفار التوراة أن نوحا قد قال: "ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام وليكن كنعان عبداً لهم". والغريب في هذه القصة أن كنعان قد تم لعنه إلى الأبد على الرغم من أنه لم يقترف أي ذنب، فلم يكن هو من رأى عورة نوح، ولم يحضر هذه الواقعة أصلاً، والمنطقي أن يلعن نوح ابنه حام وليس حفيده كنعان! وتفسير ذلك بسيط، فالعبريون قد احتلوا أرض الكنعانيين وأصبحوا ألد أعدائهم، وكان لا بد من وصمهم بعار دائم ولعنة أبدية، وهو المنهج الذي طبّقته التوراة دائماً وهي تتحدث عن أعداء اليهود.. هذا ما ترويه التوراة عن كنعان.. ولكن الحقيقة ليست بتلك البساطة، فالكنعانيون كما تؤكد الدراسات الحديثة هم شعوب سامية (لأن لغتهم كانت إحدى اللغات السامية) أصلها من العراق، وقد خرجت في موجات هجرة متتابعة من العراق إلى سواحل الشام الشرقية والجنوبية، وفي الشام أسسوا حضارة بدأت من نحو 4000 سنة ق.م -أي قبل عصر إبراهيم بنحو 2000 سنة- واستمرت لآلاف السنين، ويكفي أن نذكر أن حضارات الفينيقيين والقرطاجيين هي حضارات كنعانية في الأساس، وبذلك تكون حكاية أن كنعان بن حام قد أنجب الكنعانيين تشبه تماماً أن نقول إن فرعون هو أبو الفراعنة! وهكذا حكم اليهود على حضارة كاملة باللعنة والعبودية الأبدية؛ لمجرد أنهم كانوا أعداءهم! الحلقة القادمة: هل حقاً يشكل اليهود جنساً نقياً؟ اقرأ أيضا: ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (1).. شعب الله المختار ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (2).. خروج اليهود من مصر إلى التيه ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (3).. مملكة اليهود وهدم هيكل سليمان؟!! ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (4).. عودة اليهود