وسط قادة وفرسان انتفاضة قضاة مصر التاريخية التى تفجّرت قبل الثورة بسنوات من أجل انتزاع حق الشعب المصرى فى الحرية وقضاء عادل مستقل يحميها، اشتهر وتألق رهط من القضاة الأجلّاء، من بينهم الأخوان محمود وأحمد مكى، والحق أن من دواعى فخرى واعتزازى أننى فزت بصداقة ومحبة هؤلاء جميعًا، فقد كان عبد الله الفقير كاتب هذه السطور واحدًا من مئات الصحفيين والكتّاب والمثقفين الذين اعتبروا أن واجبهم تجاه هذا الوطن وأهله يفرض عليهم أن لا يكتفوا بالتضامن والدعم المعنوى لانتفاضة قضاتنا العظام وإنما دعمها عمليًّا بكل سلاح نملكه، ابتداءً من أجسادنا العارية التى أضناها النوم فى الشوارع حول نادى القضاة بقلب القاهرة وانتهاءً باستخدام منابر الإعلام الحر القليلة التى كانت متاحة لنا آنذاك فى رد وفضح ما كانت تبثه آنذاك أبواق النفاق والسفالة والكذب التابعة للنظام ضد الانتفاضة وفرسانها الشوامخ. وقتها نجحنا وتمكنت منابر الإعلام الحر (على قلتها ومحدودية إمكانياتها) من هزيمة تلك الآلة الشريرة الجبارة التى راحت تشن حملات تهجّم وتشهير واطية وشرسة بقضاة الحرية والاستقلال، لكننا استطعنا تبصير وكسب تعاطف القطاع الأكبر من الرأى العام مع الأهداف النبيلة للانتفاضة، وحققنا نموذجًا مدهشًا للتكامل والتآخى بين المناضلين على جبهة القضاء المستقل العادل والمكافحين من أجل استعادة حق المصريين فى التمتع بحريات تعبير وإعلام وصحافة طليقة من أى قيود.. باختصار، فى هذه الأيام الرائعة تجسّد على نحو مدهش معنى أن الحق الطبيعى للناس فى الحرية بكل فروعها وتجلياتها (فى السياسة والتعبير ومرفق العدالة) وحدة واحدة لا يمكن أن تنفصم ويستحيل تشطيرها وتجزئتها. أترك هذا الماضى القريب الجميل وأقفز إلى الأيام السوداء الحالية، وأقول إن مَن يقرأ هذه الزاوية بانتظام لا بد يعرف أن العبد لله ما زال كما كان أيام المخلوع، معارضًا قويًّا للحكم القائم حاليًا (وكأن قدرنا أن نحيا ونموت من دون أن نتذوق طعم الموالاة) لأسباب أظنها واضحة، ومنها أن الجماعة التى اختطفت كل سلطات الحكم فى البلد (أعرف أن عصابة اللجنة الإلكترونية ستتسافل كالعادة وستهرطق بأن الجماعة التى تستأجرها صعدت بالصناديق)، هذه الجماعة لا تؤمن بأى هدف من أهداف الثورة التى أخرجتها من ظلام الحظر إلى نعيم الحُكم، بل تعاديها كلها تقريبا، خصوصا «الحرية» و«العدالة الاجتماعية».. وانظر حولك أرجوك، وقل لى عن أى فرق بين سياسات المخلوع وعصابته وسياسات الإخوان وعُصبتهم المالية وجيش الفلول والأرزقية والخدامين والمنافقين السائرين فى ركابهم حاليا. غير أن معارضتى وتناقضى التامّ مع ورثة حكم المخلوع وسياساته لم تمنعنى من الشعور بشىء من الراحة المشوبة بإشفاق عظيم على ثلاثة رجال تورّطوا فى عضوية المنظومة الحاكمة الحالية، وأقصد الصديق الدكتور محمد محسوب (وزير دولة للشؤون القانونية) والمستشارين الجليلين أحمد ومحمود مكى اللذين تبوّآ منصبين خطيرين، إذ تولى المستشار محمود منصب النائب الوحيد للرئيس، بينما كان شقيقه الأكبر المستشار أحمد مكى سبقه إلى تولى حقيبة وزارة العدل فى حكومة لا داعى لوصف حالتها التى ربما تصعب على الكافر. لماذا أشفقت على الأصدقاء الكرام الثلاثة، بينما هم يتمتعون بنعومة الحياة فى دهاليز السلطة العليا؟! لأننى اعتبرت هذه النعومة السلطوية اختبارًا قاسيًا لهم وحملًا ثقيلًا على ضمائرهم التى أفترض أنها حية ومرهفة، فكنت وما زلت أسأل نفسى إلى متى سيتحملون عبء التمركز فى قلب نظام بائس تكاد توجهاته وأهدافه وسياساته التى تشى بها كل الإشارات الصادرة عنه حتى تتصادم وتتعاكس كليًّا مع أهداف النضال الذى شرفت بمعرفتهم وهم يخوضونه. ومن دواعى أسفى وحزنى الشديد، أن واحدًا من الرجال الثلاثة، المستشار أحمد مكى يبدو الآن قريبًا جدًا من الإخفاق فى هذا الاختبار القاسى، فقد انزلق تدريجيًّا، ولكن بسرعة ملحوظة نحو الاستقرار (أخشى أن أقول التماهى) فى أسوأ وأوضح ما يميز سلوك حكم «الجماعة» الراهن، ألا وهو العداء السافر والنفور الواضح من الحريات عمومًا وحرية الصحافة والإعلام خصوصًا، ومحاولة (كما كان يفعل المخلوع، وإن كان بفجاجة أكثر وكفاءة أقل) تعويض الفشل والعجز التام عن تقديم حلول حقيقية لقضايا الناس بالانقضاض على الإعلام والتشهير به والشكوى منه ليل نهار، وكأن ممارسة حق الكلام (مهما كان نوعه) بمقدوره أن يمنع مالك قوة السلطة من الفعل.. هذا الظن من عادة الفاشلين وأسهل ذرائع الجماعات الفاشية والنظم الديكتاتورية الفاسدة. فهل وقع المستشار الجليل فى الشرك الخطير ذاك؟! للأسف نعم.. غير أن المساحة تآكلت، فأكمل غدًا إن شاء الله.