صوت محمود درويش وصل إلىّ قبل صورته. استمعت فى الجامعة إلى شريط كاسيت ملحمته «مديح الظل العالى» عن الخروج من بيروت 1982... أداء درويش يشبه المطربين الكبار حيث تترك الكلمات حُفَرًا وندوبًا على رُوحك وجسدك أحيانا. ما زلت أسمع صوت درويش رغم مرور 20 سنة. مثل الحب الأول أو الاكتشاف الأول لمناطق سرية. كانت هذه روعة الشعر وصوته يقتحم الحصون الأولى لكل ما تعلمته. ورغم أن درويش كان عموميا فإننى شعرت أنه مكتشف فرديتى الخجولة.. وهى فردية تلهث وراء الالتحاق بجماعة تعرّفت على نشيدها ونشيجها فى قصائد درويش، لكنها فى نفس الوقت تريد الانفصال عنها. درويش كان مطرب العواطف السياسية لكنه طرب خاص، اختلط فى البداية مع أصوات أخرى فى الكورس الفلسطينى.. وسرعان ما انفصل وحده بصوت نقل العواطف إلى منطقة أعمق، سرق فيها فرديته خطوة خطوة وسرّبها إلى مغرميه الذين لم يكتشفوا سرها إلا بعد سنوات طويلة حينما أفشى درويش أسرار السرقة سرًّا سرًّا. عرفت درويش مع سميح القاسم.. توأم الشعر الفلسطينى، لكنهما افترقا عندما أدركتُ أن درويش ليس محترف منشورات ثورية فقط وأنه هارب محترف من إغراء الحبس فى قوالب «مغنى الثورة»، «شاعر القضية»... ورغم عشقه لصوره على الجدران الأنيقة فإنه يهرب منها كما هرب من عاشقاته وبيوته المستقرة.. نسى درويش أنه تزوج مرتين: الأولى من الشام وهى ابنة أخت نزار قبانى مرشده الأول إلى الشعر الحديث واللغة الراقصة المحطمة لجمود اللغة والقوافى، والثانية مترجمة مصرية التقاها فى أثناء إقامته فى القاهرة (1972) حين هرب من الإقامة الجبرية وحصار الحركة داخل فلسطين.. هرب من الحصار والنجاح «المبستر» كما وصفه النقاد وقتها للشاعر الذى كتب «أوراق الزيتون» 1964، و«عاشق من فلسطين» 1969.. لكنه ظل مطالبا حين يخرج من بيته إلى مدينة أخرى فى وطنه بالحصول على تأشيرة.. هرب درويش من الحصار فى فلسطين.. ولم يرضَ بحصار الزوجة والبيت فى القاهرة... انحاز إلى طبيعته فهو يحب الحب نفسه، مغروم بالغرام، أو كما قال مرة: «أحب أن أقع فى الحب، السمكة علامة برجى (الحوت)، عواطفى متقلبة، حين ينتهى الحب، أدرك أنه لم يكن حبا، الحب لا بد أن يُعاش، لا أن يُتذكَّر...». الحب هو مقامرة تسترعى كل حواس الشاعر.. لكن الزواج قيد يُساق إليه العاشق بنصف وعى ورُبع إرادة... ودرويش تغويه الإطارات الاجتماعية الجذابة... كان يستجيب فى البداية... يتلذذ بمتعة عمومية لكنه يتسلل كما فعل أول مرة مع عائلته ليعود إلى أرضه التى أصبح غريبا فيها. متسلل يخرج حين يرفض الجميع خروجه، وكما لاحقته اتهامات الخيانة لأنه خرج من فلسطين إلى القاهرة.. ظل درويش يخرج من صورة إلى صورة ومن مدينة إلى مدينة ومن حالة شعرية إلى أخرى حتى أصبح الخروج أسلوبه فى الحياة. الألفة الاجتماعية مغرية لكنها تقوده إلى غربة تلو غربة.. يهرب من صورة المناضل السجين فى زنزانة إلى القاهرة موطن الشهرة فى الستينيات والسبعينيات لكنه يخون الصورتين مع صورة أخرى ويهرب خلف عشق آخر. جرَّب درويش ألعاب الخيانة كلها.. خان فرديته وأصبح شاعر القبيلة فترات يغنى على هواها ويجمع جنودها على إيقاعه العالى... وخان انتظارات الجنود حين نزل من على صهوة جواد النبوة وكتب عن الحب والوجود.. والفرد الغريب الهارب من قبيلته. أراد الجمهور أن يسجن درويش فى حالة الطرب السياسى لكنه بعد «ورد أقل» 1986، فتح مدنا جديدة فى الشعر... تحولات المنشورات الثورية والبكائيات إلى حكايات شخصية جارحة.. أساطير صغيرة.. وأغنيات لا تسمع طربها عاليا.. الجمهور أصر على إعادة سماع الأغنيات القديمة.. الجمهور اتهم المطرب بالخيانة.. لكنه لم يرضخ وقاد الجمهور إلى حياة جديدة. هذا بعض ما كتبتُه عن محمود درويش حين غاب قبل سنوات، ولا أستعيده اليوم فقط لأن ذكراه قد حضرت، ولكن لأن فكرة مقاومة ما يطلبه المستمعون تبدو الآن فكرة تستحق التأكيد، لا تستجب لمن يطلب أن يسمع ما يُرضِيه واستجب لما ترى أنه يعبر عنك... اهرب من القطيع ولو كنت نجمه الأول.