أحمد طيباوي شهدت الجزائر خلال هذه السنة التى توشك على الانقضاء فعاليات ثقافية كثيرة، وهذه محاولة لاستعادة أهمها بما يقدم صورة أو تذكيرا، وحتى فهما ولو جزئيا لحال الثقافة فى بلدى الذى يعيش حالة مراوحة طال أمدها. أقيم صالون الجزائر الدولى للكتاب فى وقته المعتاد، من 29 أكتوبر إلى 8 نوفمبر، فى دورته 28 بمشاركة المئات من الناشرين المحليين والعرب وآخرين من دول أجنبية، وقد كانت موريتانيا ضيف شرف هذا العام. وشهد لقاءات وندوات لأدباء وأديبات من بلدان كثيرة، وكُرّم فيه الروائى الكبير رشيدة بوجدرة، وعقدت ندوات حول أعماله ومساره الإبداعي. ومثلما جرى خلال دورات سابقة، تجدد النقاش حوله، بين من يرى فى عدد زوار الصالون طيلة أيامه، حيث قدّرته محافظة الصالون بأكثر من ستة ملايين زائر، صحوة ثقافية، ومؤشر على المقروئية العالية وضرورة تمديد فترته فى السنوات المقبلة، وبين من يرى فى ذلك -أى عدد الزائرين- دليلا كاشفا على أن حال الكتاب وتوزيعه فى أرجاء البلد الممتد جغرافيا، بائس فى باقى أيام السنة، حيث هناك مطالبات دائمة بإعفاء جمركى كبير أو تام للكتاب والمطبوعات المستوردة، وتسهيل إجراءات تصدير الكتاب.. وإجمالا دعم صناعة الكتاب والانفتاح على العالم أكثر. يشكو الناشرون المحليون، أو عدد كبير منهم، من ضعف المردود الاقتصادى لنشاطهم، يشترطون على المؤلفين والكتّاب من أكاديميين ومبدعين دفع تكاليف إصدار الكتب والروايات.. ليس لدى هؤلاء الناشرين قدرة على توزيع إصداراتهم فى داخل البلاد ناهيك عن الخارج، الكتاب الورقى معاناته مضاعفة فى الجزائر، عدم التحكم فى التكاليف ومستوى الجودة، ضعف الإقبال عليه والتعقيدات البيروقراطية، أما الكتب الإلكترونية والمسموعة ومنصات القراءة فليست رائجة بالشكل الذى يجعل تجاوز الاختناق مأمولا فى الأجل المنظور. وقد حدث بفعل ذلك، ما يشبه هجرة جماعية للكتاب والروائيين الجزائريين نحو دور نشر فى المشرق العربي، أسماء مهمة ولها حضورها (محمد جعفر، أمين الزاوي، هاجر قويدري، سعيد خطيبي، عبد الوهاب عيساوي، إسماعيل يبرير، فيصل الأحمر، وغيرهم..) طلبا للانتشار وأن تتاح كتاباتهم للقارئ العربي، مع طبعات محلية محدودة بأسعار تناسب القارئ الجزائري. نتج عن انتشار ظاهرة النشر المدفوع إظهار الوجه القبيح لدخلاء على النشر لا يهمهم سوى تحقيق الربح المادى بغض النظر عن أى قيمة أدبية أو فنية تحملها إصداراتهم، حيث لا تحرير ولا مراجعة قبل النشر، أكثر الإصدارات فى مجال الرواية لا تتجاوز مائة نسخة، خمسين، وحتى عشرين نسخة! الوسائط والقنوات كان لها دورها فى تكريس هذا الميل، استعجال النجاح وحب الظهور يغذى هذا السلوك لدى الفئات الشابة، وكما هو الحال فى بلدان أخرى، دخلت تطبيقات الذكاء الاصطناعى وصار الاعتماد عليها شائعا لا أعرف أى حلول سريعة لهذا التهافت الذى يضر بالكاتب الحقيقى وبالقارئ على حد سواء، أرجو أن تنفجر هذه الفقاعة قريبا مشكلات النشر والتوزيع، والزحام الكاذب، هى ما أدت إذن بالروائيين الجادين إلى البحث عن أفق آخر.. النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة. نالت سميرة بن عيسى جائزة كتارا عن روايتها «سيفار» فى فئة رواية الفتيان، وفاز محمد فتيلينة بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، فى فئة الرحلة المترجمة، «إلى الأراضى المقدسة» لصاحبه محمد بن شريف، كما فاز بها أيضا عن الفئة ذاتها محمد الأمين بوحلوفة عن «رحلة داوسون بورر» من نابولى إلى القدس عبر أثينا ومصر وسيناء والفيوم». ومحليا، فاز الروائى عبد القادر برغوث بجائزة محمد ديب فى دورتها التاسعة، عن روايته «سيرة موتى لم يبكهم أحد» عن منشورات فهرنهايت 451، التى حاول فيها مقاربة واقع المجتمع الجزائرى فى فترة ما بين الحربين العالميتين بمنطقة أولاد. يحتاج المشهد الأدبى والثقافى الجزائرى لعدد أكبر من الجوائز فى مجالات أدبية وفنية أكثر تحديدا. تحافظ جائزة رئيس الجمهورية للمبدعين الشباب منذ 2008 على إبراز أقلام مبدعة كل عام، الرواية والشعر والمسرح وغيرها، لكنها بحاجة لتطوير آلياتها والرفع من قيمة المبالغ المالية، وأتوقع أن يحدث ذلك قريبا. ومما يؤسف له إغلاق مكتبات فى أكثر من مدينة، مثل مكتبة منشورات الاختلاف بالجزائر العاصمة، ومكتبة مركز التوثيق الاقتصادى والاجتماعي، ومكتبة المأمون، وكليهما بوهران، ومكتبة شرشال بتيبازة، ومكتبات أخرى أصغر يغلقها أصحابها أو يحولونها إلى أنشطة أكثر ربحية، لأنها لم تستطع الاستمرار بسبب محدودية مواردها وتدنى العائدات. لتبقى مكتبات المطالعة العمومية خيارا متاحا، توجد واحدة بكل بلدية، وهى مجانية بالكامل، غير أنها تعانى من عدم تجديد محتوياتها من الكتب فى مختلف الميادين العلمية والإبداعية. وفى مجال السينما، الفن السابع، أقيمت الدورة الخامسة من مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي، من 24 سبتمبر إلى ال 30 منه، تتضمن المسابقة الرسمية لهذا المهرجان فئة الأفلام الروائية الطويلة، تُوّج بها الفيلم التركى «عندما تتحول الجوزة إلى اللون الأصفر»، وفئة الأفلام الروائية القصيرة، وفاز بها لهذه الدورة الفيلم الجزائرى «من دونك»، وفئة الفيلم الوثائقى التى حصد جائزتها الفيلم اللبنانى «اعترافات من الحرب». وبعاصمة الغرب وهران، جرت فعاليات الطبعة الثالثة عشرة لمهرجان وهران الدولى للفيلم العربي، من 30 أكتوبر إلى 5 نوفمبر، بمشاركة 63 عملا سينمائيا، منها 34 دخلت المنافسة فى فئات الأفلام الطويلة والأفلام القصيرة والأفلام الوثائقية، أما بقية الأعمال فعرضت على هامش المسابقة. حضرت وزيرة الثقافة مليكة بن دودة حفل الاختتام، حيث فاز بالمراتب الأولى للفئات المذكورة كل من الفيلم الطويل «أناشيد آدم» المخرج العراقى عدى رشيد، والفيلم القصير «اسمى أمل» للمخرج السورى سنوان حاجي، والفيلم الوثائقى «أبو زعبل 89» للمخرج المصرى بسام مرتضى. وفى ولاية تيميمون بالجنوب الكبير، نظم مهرجان آخر من 13 نوفمبر إلى ال 18 منه، وهو مهرجان تيميمون الدولى للفيلم القصير، وصل عدد المشاركات إلى 60 فيلما من 31 بلدا. أما فيما يخص المسرح، فيقام بالمسرح الوطنى محيى الدين بشطارزى المهرجان الوطنى للمسرح المحترف بداية من 22 ديسمبر إلى غاية الفاتح جانفى 2026، بمشاركة 18 عرضا داخل المنافسة من إنتاج المسرح الوطنى ومسارح جهوية، وندوات ولقاءات على هامش العروض. وفى مستغانم، بغرب البلاد، عاد المهرجان الوطنى لمسرح الهواة مرة أخرى فى دورته ال 56، من 1 نوفمبر إلى 6 منه، وهو تظاهرة لها تاريخ ومستمرة منذ عام 1967، وشاركت فى دورة هذه السنة التى احتضنها المسرح الجهوى بمستغانم 22 فرقة مسرحية، بينها من تقدم مسرحيات خارج المنافسة فى إطار مسرح الطفل ومسرح الشارع. وتُطرح تساؤلات كثيرة حول جدوى الإنفاق على مثل هذه المهرجانات فى بلد ليس فيه صناعة سينما أصلا، قاعات العرض عددها محدود جدا، وتراجع للمسرح عدا استثناءات قليلة، لن يتمكنا أبدا من الاستمرار فى التواجد دون دعم الدولة، أما التمويل الخاص من القطاع الاقتصادي، فيفضّل الأنشطة الرياضية. هناك توجه يظهر فى الخطاب الرسمى نحو دعم الصناعة السينمائية وتهيئة الظروف لها، لكن أثر الخطاب الرسمى والتشريعات لم يظهر بعد.. وفى سياق قريب، عقد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون اجتماعا لمتابعة العمل الذى تقوم به المؤسسة التى استحدث خصيصا لإنجاز فيلم عن الأمير عبد القادر، شخصية تأخرت الجزائر كثيرا فى تخليدها سينمائيا بما يليق بدورها فى مقاومة الاستعمار الفرنسى فى القرن التاسع عشر والصيت الذى تمتعت به بعد ذلك. أصدر رئيس الجمهورية عفوا منذ أيام عن الأستاذ الجامعى محمد الأمين بلغيث، الذى كان صدر فى حقه حكم بالسجن بعد تصريحات أدلى بها لقناة عربية حول المسألة الأمازيغية، وقبله عفا الرئيس عن الكاتب الفرنكوفونى بوعلام صنصال الذى كان محبوسا بسبب لقاء إعلامى أيضا فُهم منه أنه يشكك فى الوحدة الترابية للجزائر، هل هناك أزمة تعبير فى الجزائر أم أن النخب عندما يتاح لها التعبير فإن خطابها يعبّر عن أزمة لديها وليس لدى النظام الحاكم؟ الحديث فى الجزائر عن التاريخ والشخصيات التاريخية صعب وشائك ومؤلم، سؤال التاريخ ما زال مطروحا فى الحاضر، وسوف يبقى كذلك فى المستقبل القريب على الأقل، ربما لأن التاريخ والذاكرة لم يخرجا بعد من محاولات الاستغلال السياسى والإيديولوجي، هل التاريخ علم له موضوعه ومنهجه أم مجرد وجهة نظر؟ برأيى تقدّر السلطات أن الصمت أولى، لأن إخراج تناقضات الماضى بحوادثه وقادته يفتح بابا لإحياء فتن تجاوزها البلد والمجتمع وبث خطاب الكراهية، وكل شخصيات الجزائر تستحق الإشادة والتمجيد، والأولوية هى التوجه نحو المستقبل، بينما يرى آخرون بأنّ مشكلات الماضى والتاريخ تمثل ألغاما فى الطريق إلى المستقبل، يجب تفكيكها، والتصالح مع الذات يقتضى فتح الملفات والنقاش، بغرض الفهم واستخلاص الدروس -دون إصدار الأحكام- لكن دون تمجيد أو وثنية.