في قلب المتحف المصري بالقاهرة، حيث تهمس الآثار بحكايات الزمن، يُزاح الستار عن عرضٍ استثنائي يعيد تعريف مفاهيم الجمال والهيبة عند المصري القديم. إنها ليست مجرد قطع أثرية، بل شواهد حية على ذوق رفيع وحضارة سبقت عصرها بقرون، باروكتان مصنوعتان من الشعر الطبيعي، تعودان ليويا وتويا، تقفان اليوم شاهدتين على أن الأناقة لم تكن وليدة الحداثة، بل جذورها ضاربة في عمق التاريخ. يكشف المتحف المصري بالقاهرة عن عرض جديد وفريد من نوعه، يسلّط الضوء على باروكتين نادرتين من الشعر الطبيعي، تعودان إلى يويا وتويا، وهما من أبرز الشخصيات في الأسرة المصرية القديمة، ووالدا الملكة تيي زوجة الملك أمنحتب الثالث. هذا العرض، المقام في قاعة (40 علوي)، يمنح الزائر فرصة نادرة للتقرب من تفاصيل الحياة اليومية والنخبوية في آنٍ واحد، من خلال قطعة قد تبدو بسيطة، لكنها تحمل دلالات حضارية عميقة. لم تكن "البواريك" أو الشعر المستعار في مصر القديمة مجرد وسيلة للزينة أو الترف، بل كانت عنصرًا أساسيًا في منظومة الجمال والوقار الاجتماعي، فقد ارتبط ارتداء الباروكة بالنظافة الشخصية، والمكانة الاجتماعية، والهيبة، بل وحتى بالمعتقدات الدينية، وكان المصري القديم شديد الحرص على مظهره، يرى في الأناقة انعكاسًا للنظام والتوازن، وهما قيمتان جوهريتان في فلسفته الحياتية. وتأتي باروكتا يويا وتويا لتؤكدا هذا المفهوم؛ إذ صُنعتا من شعر طبيعي بعناية فائقة، وبأسلوب يدل على تقدم مذهل في تقنيات التجميل والحِرَف اليدوية، ورغم مرور آلاف السنين، ما زالت تفاصيلهما الدقيقة محفوظة بشكل يثير الدهشة، من ترتيب الخصلات إلى أسلوب التصفيف، وهو ما يعكس وعيًا مبكرًا بأهمية العناية بالشعر كجزء من الهوية الشخصية. وتُعد مقبرة يويا وتويا من أغنى المقابر المكتشفة، إذ ضمت مجموعة كبيرة من الأثاث الجنائزي والقطع الشخصية، التي تعكس مكانتهما الرفيعة في البلاط الملكي، ومن بين هذه الكنوز، تبرز الباروكتان كدليل إنساني حميمي، يقربنا من أصحابهما أكثر مما تفعل التماثيل أو النقوش الرسمية. فهي تحمل أثر اللمسة البشرية، وتمنحنا نافذة مباشرة على تفاصيل الحياة الخاصة للنخبة في مصر القديمة. كما يوضح العرض كيف أن الاهتمام بالجمال لم يكن حكرًا على النساء فقط، بل شمل الرجال أيضًا، حيث كان الشعر المستعار جزءًا من المظهر الرسمي والاحتفالي، وأحيانًا اليومي، وقد ارتبطت الباروكة كذلك بالحماية من حرارة الشمس، وبالمناسبات الدينية والطقسية، مما يضيف بعدًا عمليًا وروحيًا إلى استخدامها. إن عرض باروكتي يويا وتويا لا يقتصر على إبراز قطعة أثرية نادرة، بل يفتح بابًا لفهم أعمق لعلاقة المصري القديم بذاته وبجسده، وكيف رأى في العناية بالمظهر احترامًا للنفس، واستعدادًا للخلود، فالجمال، في نظره، لم يكن زائلًا، بل قيمة تُحمل إلى العالم الآخر. بهذا العرض، يواصل المتحف المصري بالقاهرة أداء دوره كمخزن للذاكرة الإنسانية، لا يكتفي بحفظ الآثار، بل يعيد تقديمها بروح معاصرة، تُظهر عظمة الحضارة المصرية في تفاصيلها الصغيرة قبل إنجازاتها الكبرى، وتبقى باروكتا يويا وتويا شاهدتين على أن الرقي والأناقة كانا، وما زالا، جزءًا أصيلًا من هوية مصر عبر العصور.