فى عالم يتغير بوتيرة غير مسبوقة، لم تعد الأصول الملموسة مثل المصانع والعقارات والمخازن هى ما يحدد قيمة الشركات الكبرى فى البورصة الأمريكية، بل أصبحت الأصول غير الملموسة وعلى رأسها البيانات تمثل الثروة الحقيقية. هذا التحول لم يعد مجرد نقاش أكاديمي، بل أصبح حقيقة تترجمها القوائم المالية، وتتجلى فى نماذج الأعمال، وتنعكس بقوة على تقييمات الشركات العملاقة فى وول ستريت، وعلى رأسها شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. لقد دخل الاقتصاد العالمى مرحلة جديدة يمكن وصفها ب»عصر النفط الرقمى»، حيث أصبحت البيانات هى الوقود الذى يدفع نمو الشركات ويدعم ابتكارها ويحدد قدرتها على المنافسة وتحقيق الأرباح. هذا التقرير يقدم قراءة تحليلية معمقة لكيف تغيّرت معايير تقييم الشركات فى البورصة الأمريكية، وكيف أصبحت كمية البيانات وجودتها وحجم استخدامها تشكل المحدد الرئيسى للقيمة السوقية، مع استعراض تأثير ذلك على أسهم التكنولوجيا، وما يحمله من مخاطر تنظيمية، ودور الذكاء الاصطناعى فى تضخيم القيمة السوقية بشكل قد يطرح تساؤلات حول مستقبل هذا النمو. قيمة جديدة بدأ الاقتصاد الأمريكى يشهد تحوّلًا جذريًا منذ منتصف العقد الماضى، حين أصبحت الشركات التى تعتمد على البيانات فى صميم نموذج أعمالها تتصدر المؤشرات الرئيسية. فأسهم شركات مثل جوجل وميتا أمازون ومايكروسوفت وحتى شركات مثل تسلا لم تعد تُقيّم فقط بناء على الإيرادات أو الأصول، بل على أساس قدرتها على جمع البيانات ومعالجتها واستخدامها لتوليد قيمة جديدة. البيانات هنا لم تعد مجرد معلومات، بل أصبحت مادة خام عالية القيمة، تشبه النفط فى مطلع القرن العشرين. كلما امتلكت الشركة بيانات أكثر، ازدادت قدرتها على فهم المستهلك وتوقع سلوكه وتحسين الخدمات وتقديم منتجات أدق، وهو ما ينعكس مباشرة على سعر السهم. وقد أصبح المستثمرون ينظرون إلى قاعدة البيانات الضخمة باعتبارها أصلًا استراتيجيًا، يتجاوز قيمته فى بعض الأحيان قيمة البنية التحتية المادية. هذا التغير يظهر بوضوح فى القفزة الكبيرة فى تقييمات شركات التكنولوجيا خلال السنوات الأخيرة، فقد باتت الشركات التى يمكنها تحليل البيانات وإدارة نماذج ذكاء اصطناعى ضخمة تحظى بتميّز واضح عن منافسيها، وهو ما جعل أسهمها تقفز بوتيرة أسرع من بقية القطاعات التقليدية. قوة التقنية تأثير البيانات على تقييمات الشركات الأمريكية لا ينفصل عن التطور الهائل الذى تشهده تقنيات الذكاء الاصطناعى. فهذه التقنيات تمثل المحرك الذى يحول البيانات من مجرد أرقام إلى أنظمة تنبؤية، وقرارات أسرع، ونماذج أعمال أكثر ربحية. وبفضل هذه التقنيات، أصبحت الشركات التى تمتلك كميات هائلة من البيانات قادرة على تدريب نماذج ذكاء اصطناعى فائقة القدرة، وهو ما خلق دائرة إيجابية: كلما ازدادت البيانات ازدادت قوة النموذج، وكلما ازدادت قوة النموذج ازدادت قدرة الشركة على الحصول على بيانات جديدة. هذا الواقع جعل المستثمرين يتعاملون مع شركات الذكاء الاصطناعى باعتبارها شركات نمو طويل الأجل، حتى قبل أن تحقق أرباحًا فعلية. فالمعادلة الجديدة فى وول ستريت تقول إن الشركة التى تمتلك قدرات تحليلية عالية قادرة على تحقيق أرباح مستقبلية هائلة، وهو ما ينعكس فى التقييمات الضخمة التى نشهدها اليوم. لكن هذه القوة تحمل فى طياتها مخاطر يمكن أن تغيّر المشهد فجأة، خصوصًا إذا ظهر منافسون يمتلكون نماذج أكثر تقدمًا أو قاعدة بيانات أكثر عمقًا، ما يجعل السوق عرضة لتحولات سريعة فى القيمة السوقية. أرباح مخفية من أبرز الظواهر التى فرضها عصر البيانات ظهور ما يمكن وصفه ب»الأرباح المخفية»، وهى أرباح لا تظهر مباشرة فى القوائم المالية، لكنها تتجلى فى التوسع السريع فى المستخدمين، أو زيادة معدلات الاحتفاظ بالعميل، أو نمو الإعلانات المستهدفة، أو تحسين الكفاءة التشغيلية. هذه الأرباح غير المباشرة أصبحت سببًا رئيسيًا فى ارتفاع تقييمات شركات التكنولوجيا، حيث باتت القيمة السوقية تعتمد على توقعات الأرباح المستقبلية المرتبطة باستخدام البيانات أكثر من اعتمادها على الأرباح المحققة فعليًا. ونتيجة لذلك، أصبحت شركات تعتمد على نماذج بيانات قوية، لكنها لا تحقق أرباحًا كبيرة، تحظى بتقييمات تفوق شركات صناعية عملاقة لديها أرباح ضخمة لكنها لا تمتلك نفس النفوذ المعلوماتي. هذا التوجه قد يبدو منطقيًا فى إطار الاقتصاد الرقمي، لكنه يعكس أيضًا درجة من المخاطرة، إذ تصبح التقييمات المالية مبنية على توقعات قد لا تتحقق إذا حدثت تغيرات تنظيمية أو تقنية مفاجئة. مخاطر تنظيمية بينما تجنى الشركات الأمريكية ثمار «ثورة البيانات»، بدأت الجهات التنظيمية فى الولاياتالمتحدة وأوروبا تتحرك بقوة لضبط حدود استخدام البيانات، فى ظل مخاوف متزايدة تتعلق بالخصوصية، والأمن السيبرانى، والاحتكار. هذه التحركات التنظيمية أصبحت عنصرًا مهمًا فى تقييم أسهم التكنولوجيا، لأنها تهدد بفرض قيود قد تحد من قدرة الشركات على جمع البيانات، أو تفرض عليها دفع غرامات ضخمة، أو تمنعها من تنفيذ بعض الممارسات التسويقية. كما أن القوانين الجديدة المتعلقة بحماية الخصوصية، ومنع الاحتكار، وتنظيم الذكاء الاصطناعى، أصبحت من أهم العوامل التى تؤثر على شهية المستثمرين للمخاطرة. وقد بدأت بعض الشركات بالفعل تستعد لواقع جديد قد تصبح فيه البيانات «محمية أكثر ومنفتحة أقل»، وهو ما قد يقلل من قدرتها على الابتكار وتطوير نماذج الأعمال القائمة على الذكاء الاصطناعي. تضخيم اصطناعى. الذكاء الاصطناعى، رغم كونه أحد أكبر محركات النمو الحالى، يمثل أيضًا عاملًا مهمًا فى تضخيم التقييمات السوقية لشركات التكنولوجيا. فهناك شركات حصلت على تقييمات ضخمة فقط لأنها أعلنت عن مشاريع فى مجال الذكاء الاصطناعي، حتى لو لم تكن لديها قاعدة بيانات قوية أو ابتكارات حقيقية. هذا الواقع يثير مخاوف من تشكل «فقاعة ذكاء اصطناعى»، تشبه فقاعة الدوت كوم، لكن بصيغة أكثر تعقيدًا، حيث يرتفع سعر السهم بناء على توقعات مستقبلية مبالغ فيها عن قدرة الشركة على الاستفادة من الذكاء الاصطناعى. ومع ذلك، يختلف المشهد اليوم عن فقاعة التسعينات فى نقطة مهمة: هناك بالفعل شركات تمتلك نماذج ذكاء اصطناعى متقدمة، وقواعد بيانات هائلة، تستخدمها لتحقيق أرباح حقيقية، وبالتالى ليس كل ما يحدث فى السوق فقاعة، لكنه بالتأكيد ينطوى على مبالغة فى بعض التقييمات. مستقبل غامض فى ظل هذا التحول الهائل، تبدو البورصة الأمريكية مقبلة على مرحلة جديدة يصبح فيها "من يمتلك البيانات يمتلك القوة". لكن المستقبل لا يزال يحمل الكثير من الأسئلة: هل ستظل البيانات هى المحرك الرئيسى للتقييمات؟ وهل سيستمر المستثمرون فى المراهنة على الذكاء الاصطناعى كما يفعلون الآن؟ وهل ستسهم التشريعات الجديدة فى إعادة التوازن بين شركات التكنولوجيا وبقية القطاعات؟ ما يبدو مؤكدًا هو أن السوق أصبح أكثر ارتباطًا بالمعلومات، وأكثر حساسية تجاه أى تغير فى قدرة الشركات على جمع البيانات أو استخدامها. وبقدر ما يمثل النفط الرقمى فرصة هائلة للنمو، فإنه يحمل أيضًا مخاطر قد تغير خريطة المنافسة فى وول ستريت خلال السنوات المقبلة. فى النهاية، يمكن القول: إن البيانات أصبحت -ليست فقط الوقود الجديد للاقتصاد- بل العملة الجديدة التى تحدد مكانة الشركات فى السوق، وترسم ملامح عصر اقتصادى مختلف جذريًا عما عرفناه سابقًا.