الداخلية تكشف حقيقة ادعاء مرشح الشرابية بوجود تجاوزات وإجراءات تعسفية تجاه أنصاره    في قبضة أمن الإسماعيلية.. كلاكيت تاني مرة شراء أصوات بالقصاصين والقنطرة شرق وغرب ( صور )    بعد تجديد نفي زيادة الأسعار، تعرف على أسعار شرائح الكهرباء    ارتفاع سعر جرام الذهب مساء اليوم، عيار 21 وصل لهذا المستوى    وزير الدفاع الأوكراني: ألمانيا تعهدت بتخصيص 13.5 مليار دولار لدعمنا العام المقبل    بين الحرب والسرد.. تحولات الشرق الأوسط في 2025    كأس الإنتركونتيننتال، باريس سان جيرمان يتقدم على فلامنجو بهدف في الشوط الأول    ماس كهربائي يلتهم سيارتين في جراج والمعمل الجنائي يعاين بالهرم    ياسمينا العبد عن مسلسل ميد تيرم: لسه الأمل موجود (فيديو)    مباشر كأس إنتركونتيننتال - باريس سان جيرمان (0)-(0) فلامنجو.. بداية اللقاء    إسرائيل تفرج عن 12 أسيرا من سكان قطاع غزة    إصابة 6 أشخاص في تصادم ميكروباص وملاكي بالبحيرة    محافظ الغربية يستدعى سيارة إسعاف لمسنة تعثرت بعد الإدلاء بصوتها أثناء جولته الميدانية    الزعيم عادل إمام يغيب عن عزاء شقيقته إيمان    خالد الجندي: من الشِرْك أن ترى نفسك ولا ترى ربك    ما حكم حلاقة القزع ولماذا ينهي عنها الشرع؟.. أمين الفتوى يُجيب    محافظ الجيزة: زيادة عدد ماكينات الغسيل الكلوى بمستشفى أبو النمرس إلى 62    الداخلية تكشف حقيقة إجبار سيدة على ترك مسكنها بالبحر الأحمر    جلسة صعود وهبوط: 6 قطاعات فى مكسب و10 قطاعات تتراجع    السيسي يرحب بتوقيع اتفاق الدوحة للسلام الشامل بين حكومة وتحالف نهر الكونغو الديمقراطية    البنك الزراعي المصري يسهم في القضاء على قوائم الانتظار في عمليات زراعة القرنية    مستشار رئيس الجمهورية: مصر تمتلك كفاءات علمية وبحثية قادرة على قيادة البحث الطبى    مطران بورسعيد يدلي بصوته بانتخابات الإعادة بمجلس النواب    إصدار عُملة تذكارية بمُناسبة مُرور 150 عامًا على إنشاء هيئة قضايا الدولة    أرفع أوسمة «الفاو» للرئيس السيسى    مدير تعليم سوهاج يتناول وجبة الإفطار مع طالبات مدرسة الأمل للصم (صور)    جامعة الدول العربية تطلق المنتدى العربي الأول للإنذار المبكر والاستعداد للكوارث    الروائى شريف سعيد يتحدث عن "عسل السنيورة" الفائزة بجائزة نجيب محفوظ    التموين تنتهي من صرف مقررات ديسمبر بنسبة 73%    الصحة: إجراء جراحة ميكروسكوبية دقيقة لطفل 3 سنوات بمستشفى زايد التخصصى    تضامن المنوفية: تسليم 46 مشروع إنتاجي لتمكين المرأة الريفية    كيف دعم حسن حسني الراحلة نيفين مندور في فيلم «اللي بالي بالك»؟    جوائز مالية ضخمة للمنتخبات المشاركة في كأس العالم 2026    تأييد حبس الفنان محمد رمضان عامين بسبب أغنية رقم واحد يا أنصاص    حقيقة انفصال مصطفى أبو سريع عن زوجته بسبب غادة عبدالرازق    مفتي الجمهورية يلتقي نظيره الكازاخستاني على هامش الندوة الدولية الثانية للإفتاء    مكتبة الإسكندرية تشارك في افتتاح ملتقى القاهرة الدولي للخط العربي    الداخلية تضبط 3 أشخاص لتوزيعهم أموال بمحيط لجان المطرية    قائمة ريال مدريد - غياب فالفيردي وكورتوا في مواجهة تالافيرا    أسوان تكرم 41 سيدة من حافظات القرآن الكريم ضمن حلقات الشيخ شعيب أبو سلامة    18 فبراير 2026 أول أيام شهر رمضان فلكيًا    محافظ القليوبية يكرم البطلة جنة صليح لحصولها على برونزية قذف القرص بدورة الألعاب الأفريقية    باسل رحمي: نحرص على تدريب المواطنين والشباب على إقامة مشروعات جديدة    الأمطار وراء تأخر فتح لجنتين بالتل الكبير لمدة 20 دقيقة بالإسماعيلية    وزير الرياضة يعلن عودة نعمة سعيد من الاعتزال تحضيرا ل أولمبياد لوس أنجلوس    اليونيفيل: التنسيق مع الجيش اللبناني مستمر للحفاظ على الاستقرار على طول الخط الأزرق    أوكرانيا تعلن استهداف مصفاة نفطية روسية ومنصة بحر القزوين    مسئولة أممية: نسعى لمنع تكرار سيناريو دارفور في كردفان    المحمدي: ظُلمت في الزمالك.. ومباريات الدوري سنلعبها كالكؤوس    اتجاه في الزمالك لتسويق أحمد حمدي في يناير    المصرف المتحد يرعى المسابقة العالمية للقرآن الكريم في نسختها الثانية والثلاثين    مع بدء التصويت بانتخابات الاعادة للمرحلة الثانية .. حزب العدل يتقدم ب 7 شكاوي للهيئة الوطنية للانتخابات    عاجل- الأرصاد السعودية تحذر: أمطار ورياح شديدة على منطقة حائل    إصابة سيدة وابنها صدمتهما سيارة بقرية فى أبو النمرس    محافظ قنا يوجه بحملات مرورية مكثفة للحد من حوادث الطرق    متحدث وزارة الصحة يقدم نصائح إرشادية للوقاية من الإنفلونزا الموسمية داخل المدارس    إصابة ثلاثة طلاب من جامعة بنها جراء اعتداء بمياه النار في كفر شكر    انفجارات في كييف وإعلان حالة إنذار جوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أثر ملتقى الأقصر الدولى للتصوير بين المجتمع والفن
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 15 - 12 - 2025


منى عبد الكريم
«أقف حائرا وأنا أدون مدينتى التى تتساقط نحو السماء، ينتابنى شعور الانتماء لهذا الكوكب.. هل نحن نتمسك به بفعل الجاذبية أم خوفا من السقوط نحو الفضاء، أحاول أن ألملم أشيائى فأنتزع كل أجزائى وأرمى برأسى فقط نحو محترف ما يسمى بالرسم لأمسكها مبعثرة على سطح أبيض يشبه غيمة كبيرة.. تلك الأشياء الصغيرة التى تجتاح مخيلتى كل مساء.. كسريرى المربوط بحبل إلى جذع نخلتين مذبوحتين.. أدون أشيائى التى تشبه الرسم والرسم هناك كان تدوين بجذوره التاريخية والإنسانية، فأكتب زورقى شكلا وحمائمى رمزًا تقف على جدار بيتنا الطينى تتكئ عليه أمى المكبلة بدواسة ماكينة الخياطة تصنع لنا شكلا من القماشة وهى تحتسى من الليل عيونها حتى مطلع الفجر تترك لنا عند الصباح ألف سؤال وسؤال.. أتحول إلى جسد غازى أستعير عين من السماء أدون الأسماء التى لا أعرف إلا أشكالها وأترك مفكرتى هنا ليتصفحها الجميع لننتج سؤال».
بتلك الكلمات اختتم الفنان العراقى حامد سعيد كتابته البديعة المعنونة «أشياء تشبه الرسم وهو نفس عنوان أحد معارضه الفردية السابقة، ليشاركها مع فنانى ملتقى الأقصر للتصوير بإحدى الندوات التى أقيمت ضمن مجموعة كبيرة عقدت خلال أيام الملتقى فى دورته الثامنة عشرة، وذلك بهدف تعارف الفنانين على تجارب بعضهم البعض الفنية. ليطرح الفنان أسئلة مكثفة لها علاقة بالفن وماهيته والدلالات والرموز، فى نص يحمل روح شاعرة وهو تقريبا ما وجدت عليه الفنان نفسه.. يتجاوز سعيد حواجز اللغة التى لا تكفى أحيانا للتعبير، بل والتى تسجن الأفكار فى قوالب من صنع الإنسان.. ولذا فهو يجد فيما يرسم لغة رحبة محلقة تتجاوز الحدود ليؤكد أن الفن بالنسبة له «مهارات تدوين لإعادة إنتاج الواقع بصورة مغايرة».
طوال الطريق إلى الأقصر وأنا محملة بعبارة واحدة أحاول أن اقتفى أثرها فى نفسى وهى «العودة للأقصر» وتحديدا إلى ملتقى الأقصر الدولى للتصوير الذى يحمل مكانة خاصة فى قلبي، لتلك الشحنة المكثفة من الفن التى أغرق فيها بكل حواسى عبر أيام الملتقى مع قرابة 25 فنانا من مصر وجميع أنحاء العالم فى هذا التوقيت تقريبا من كل عام، لأعيد اكتشاف أثر المدينة التاريخية التى لا تشبه أى مدينة أخرى فى لوحات فنانى الملتقى.. وقد أتاح الملتقى عبر دورات متعددة فرصة لأعايش عن قرب كيف يحاور الفنانين لوحاتهم، وكيف يواجه كل منهم أمام الأسئلة التى تطرحها اللوحة باحثا عن إجابة، ثم كيف تمنح التجربة الفنان فرصة لإعادة اكتشاف نفسه ومسطحه.
بدأت الرحلة بزيارة إلى الأستديو الذى يجتمع فيه الفنانون لإنتاج لوحاتهم خلال فترة الملتقى الذى ينظمه صندوق التنمية الثقافية، بحثا عن ملامح تأثر الفنانين بتلك الفترة وبحوارهم مع البيئة المحيطة كجانب مهم من الفلسفة التى يقوم عليها الملتقى فى معايشة المدينة الخالدة التى تعتبر أكبر متحف للآثار فى العالم، وتتبع أثر حضورها فى تلك اللوحات.. ولكننى ومنذ اللحظة الأولى وقعت فى غرام تلك المركب الورقية التى رسمها الفنان حامد سعيد لتعيدنى إلى طفولتى وإلى كل تلك المرات التى قمت فيها بتمزيق ورقة من كشكولى القديم.. لأشكل تلك المركب الورقية.. عرفت أن تلك اللوحة هى واحدة من الأعمال التى أنتجها الفنان حامد سعيد خلال فترة إقامته بالملتقى ضمن أعمال أخرى كان فيها الإحساس بالذاكرة والعودة للطفولة جزءا لا يتجزأ من تجربة الفنان على امتدادها، بينما نلمح أثر إقامته فى الأقصر فى مفردات عدة كالمراكب والنخيل.. إذ يقول الفنان إننا نظل بأرواحنا فى فترة الطفولة بينما نتقدم بأجسادنا فى العمر..وحامد سعيد متأثر فى جوهر تجربته بأثر المدينة ولكننى أعنى هنا «البصرة» حيث ينتمى بالميلاد والنشأة وحيث يعيش حاليا.. ليخبرنى أنه وجد فى الأقصر بنيلها الممتد وبالضفة الأخرى التى يتأملها من مقر إقامته خلال فترة الملتقى ما يعيده إلى مدينته منبع الإلهام.. مؤكدا أن مدينة الأقصر طاغية.. لا سيما المدينة الأثرية.. ولكنه دائما ما يبحث عن الأثر الإنسانى أكثر من الأثر الجغرافى.
امتد الحوار بيننا عن الأُثر، فبلا شك تحمل المدينة الأثرية طاقة قوية ولكن عليه كفنان أن يستوعب كل تلك الأشياء وأن ينتقى ما الذى سيدخل إلى لوحته منها.. وهو يرى أن الانسان صانع جمال.. يترك ذكراه فى الأشياء، وعندما يمر الوقت ونتأمل الأشياء ذاتها فإننا نستعيد معها تلك اللحظات الجميلة.
شمس الأقصر مصدر الطاقة
كنت أتلمس فى حوارى مع الفنانين هذا العام، الانطباع الأعمق الذى لمس وجدانهم خلال فترة مشاركتهم بملتقى الأقصر، أخبرتنى ناتاشا لين الفنانة الإنجليزية الصينية أنها تحب أن ترسم فى الشمس، فالشمس هى مصدر الطاقة بالنسبة لها وهى تشعر بسعادة غامرة لتلك الطاقة التى تستمدها من شمس الأقصر.. ولم تكن لين وحدها هى من تأثرت بجو الأقصر الدافئ، فالطالما كانت شمس الأقصر إحدى المفردات التى تترك أثراً قوياً فى كثير من أعمال الفنانين فعلى الرغم من استمرار الفنانة أوكسانا ايفدوكيمينو من بيلا روسيا فى تقديم مفرداتها البصرية إلا أننى وجدت فى توظيف درجات اللون الأصفر ما أعادنى لنور الشمس القوي.
لم تكن المدينة بمفرداتها وحدها هى محور الحديث إذ أن التفاعل بين الفنانين كان أحد المحاور الأساسية التى تحدث عنها كثير منهم، إذ يستعيد سعيد مقولة نيتشة «جاء الفن لعجز اللغة» مضيفا أن الفن يعد شكلا من أشكال التواصل البشرى وفهم الحياة حتى وإن وجدت ألف لغة شفاهية مكتوبة كانت أم مسموعة، يبقى الفن طاقة حسية تتجاوز الأبصار والأمصار. نحن نمارس ما يسمى بالرسم لنفهم الحياة والذات التى عجزت كل العلوم عن وصفها.. نحمل ما يسمى بالفن على أكتافنا وكأننا نحمل المدن بكل أشكالها الأخلاقية والمعرفية ونلقى بها بداخلنا إنتاجها رسما.. مشيرا إلى أن البلدان تزدهر بفعلها الثقافى وملتقياتها التى تقترب من خلالها الشعوب باختلاف الألسن واللغات والجغرافية، إلا أن الفن يصنع أثره الكبير لفهم الآخر وفهم الذات.
فى ملتقى الأقصر للتصوير يصبح اللون جواز سفر وتغدو اللوحة جسرا للتواصل كما يقول د.أحمد سميح الفنان والناقد الفنى المقيم بملتقى الأقصر فى دورته الثامنة عشر، مضيفا: يتأثر الفنانون بجلال المدينة ويتبادلون الخبرات فيما بينهم فى حوار بصرى يثرى الذاكرة الإنسانية ويؤكد أن الفن قادر على أن يكون أداة للتقارب والتفاهم .
وفى تجربة لإعادة اكتشاف ما تعنيه مفردة «الملتقى» على أكثر من مستوى وما يحمله مفهوم اللقاء أعدت مشاهدة ذلك الفيلم القصير الذى تم انتاجه أثناء فترة الملتقى، فتحدثت الفنانة المغربية ماريا قرمدى عن الأجواء المليئة بالفن والثقافة فى مصر أم الدنيا.. أما الفنان فهد المعمرى فذكر أن زيارته للأقصر هى نافذة ثقافية متميزة، فالملتقى يتيح فرصة ممتازة لتبادل الثقافات والتعرف أيضاً على خبرات الفنانين التشكيليين.. هذا ما أكده الفنان الإيطالى أيضا أنطونيو مانفريدى، إنه بالفعل وقت استثنائى التقى خلاله بالعديد من الفنانين المميزين وهذا أمر مهم بالنسبة له كفنان وكقيّم لمتحف للفن المعاصر.
وقد تحقق معنى الملتقى كذلك فى العمل الذى قدمه الفنان السنغافورى ييب يو تشونج، حيث قدم لوحتين متصلتين منفصلتين، يمتد النهر عبر العملين عن مصر وسنغافورة، إذ ستسافر اللوحة الأولى لتستقر فى سفارة مصر بسنغافورة والثانية فى سفارة سنغافورة بالقاهرة لتكون شاهدا على عمق الروابط الثقافية والفنية بين الشعبين وتأتى هذه المشاركة فى تعزيز التعاون الثقافى الدولى وبمناسبة الاحتفال بمرور 60 عاما على التعاون بين مصر وجمهورية سنغافورة.
العودة إلى الأقصر
بكل تلك الحكايات والطاقات المتدفقة للمدينة الساحرة كانت العودة للأقصر تحمل وقعا خاصا فى نفسي، لم يكن بالنسبة لى فقط، بل كذلك لثلاثة من الفنانين المصريين المشاركين الذين عادوا للملتقى مجددا فمنذ العام الماضى قررت اللجنة العليا للملتقى أن يتم دعوة ثلاثة من كبار الفنانين المصريين الذين شاركوا فى الدورات الأولى للملتقى للعودة، مرة أخرى تأكيدا على ثرائه وبمنح شباب الفنانين الفرصة لمعايشة خبرات كبار الفنانين..ففى العام الماضى تم دعوة كل من الفنانين عقيلة رياض، وعبد الوهاب عبد المحسن، وعصام معروف، إذ يصبح العودة للملتقى فرصة لإعادة اكتشاف كل منهم لأثر رحلته الممتدة فيما قدم خلال فترة الملتقى، أما خلال الدورة الثامنة عشرة فقد تمت دعوة كل من د.مصطفى عيسى، ود.أحمد رجب صقر وكذلك الفنان عمر الفيومى.
وقد جاءت مشاركة د. مصطفى عيسى فى ملتقى الأقصر للتصوير كعودة واعية إلى مدينة تحمل فى تفاصيلها ما يتجاوز المكان إلى أثرٍ معرفى وروحى متجدد. فعيسى يرى أن الأقصر، بما تحتويه من تجاور فريد بين الجبل والنيل والمعابد، فضاء يُعيد تشكيل رؤية الفنان كلما عاد إليه. فالجبل ليس كتلة صخرية، بل سجل حى لتاريخ ممتد، يحمل فى أعماقه ثِقَل الحضارة وطاقتها، فيما يمنح النيل واتساعه اتزانًا بصريًا يعمّق التجربة.. ليصبح للنيل مذاقا خاصا.. ومن خلال هذه المعايشة، يؤكد عيسى أن طبيعة الأقصر تفرض حضورها على العمل الفني، وتدفعه نحو تعبير أكثر صدقًا وارتباطًا بالمكان، وكأنها تفتح فى كل زيارة أفقًا جديدًا لاكتشاف الذات عبر بوابة الطبيعة والتاريخ معًا .
فى المرة السابقة التى شارك فيها د.أحمد رجب صقر فى الملتقى عاد محملا بشحنة قوية خرجت فى شكل معرض كامل بعنوان «جداريات» استضافته قاعة إكسترا... فللمدينة حسب تعبيره «طاقة غريبة ومذهلة» ليحكي كنت أذهب لصلاة الفجر فى مسجد أبو الحجاج وأعود لأبدأ الرسم.. كانت زيارته للأقصر لحظة انكشاف داخلى تركت أثرها عليه.. يؤكد الدكتور صقر على اهتمامه بالفن المصرى القديم منذ كان طالباً فى السنة الثانية بالكلية، وفى الأقصر يتجدد الإحساس بالامتداد الحضارى؛ فالفن المصرى القديم الذى لازمه منذ سنوات دراسته، يتحوّل هنا إلى تجربة حيّة وملموسة.
قدم الفنان من خلال مشاركته الأخيرة عملين يشكلان تصورا لجداريات تحمل رموزا هى بالأساس أبجديات لغته الخاصة فى التدوين، بينما صور طائر صغير فى الثلث العلوى من اللوحة، والطائر مهم فى الفن المصرى القديم.. وقد اختار تكوينات لطائر ينتظر لينطلق، وآخر منطلق ومحلق فى فراغ كبير أمامه موحيا بالحركة.
أما اللون الأزرق الذى هيمن على العملين فهو لون مهم جداً فى الحضارة المصرية القديمة، إّضافة إلى توظيف صقر الرمال البيضاء فى لوحاته ليرسم بيها أبجدياته، حيث الرمل يصبح صوتًا وذاكرة.
الفنان عمر الفيومى فنان جداريات بالأساس، ولذا يترجم معارفه بشكل بديع على مسطحه التشكيلى الذى يتحول لجداريات، فى لوحتيه بالأقصر قدم الفنان عملا منفصلا متصلا يرسم متبنياً أسوب المصرى القديم، ولذا فإن أبطال لوحتيه تحيلك للمصرى القديم وللفلاح المصرى وللأرض الطيبة... الحقيقة أن الجدار وما يحمله من تدوينات كان موضوعا ملهما لكثير من الفنانين، فالتدوين على الجدار كان هو التيمة الرئيسية لعملى الفنان أحمد جعفرى دون أن يتأثر بشكل مباشر بالمعطيات البصرية لمدينة الأقصر، ليدون رموزه الخاصة التى تقودنا لروح العصر الحالى ولكنه تعمد ألا يبقى سطح العمل أملس وكأنه يحاول أن يضع ملامس وتفاصيل تشبه حركة نحت الزمن على الأسطح.
رؤى جديدة من واقع الملتقى
لكل لوحة فى الملتقى حكاية خاصة تكشف عن امتزاج المؤثرات التى نتجت عن ملتقى الأقصر فى النسيج الفنى لتجربة كل فنان، إلا أنّ تجربة الفنانة تسنيم المشد حملت طابعًا مختلفًا؛ فقد انفعَلت بالمكان إلى حدٍّ دافعها للابتعاد عن بصمتها الفنية التى اعتادت عليها لسنوات، بتوظيف التكوينات الهندسية المتشابكة كما وصفها الناقد أحمد سميح، لتتحدث هذه المرة بلغة بصرية أكثر تحرّرًا، فالطاقة المذهلة للأقصر أثّرت فيها بقوة، فدفعتها إلى الخروج من القالب المألوف ومن روتينها اليومي، لتستعيد «روح الطفولة» وتدخل فى حوار مباشر مع طبيعة المكان، خاصة حين شاهدت المناطيد الملونة لأول مرة، وقد انعكس هذا التحرّر فى أعمالها بملتقى الأقصر. وتؤكد الفنانة أن تخلّيها عن التوقعات المسبقة منحها مساحة للعمل بحرية وبخامات مختلفة نسبيا، مقدّمًا لها نقطة انطلاق نحو تحوّل فنى ربما يمتد أثره لما بعد.
على العكس نجد أن الفنان أحمد عثمان قدم لوحتى الأقصر مستكملا نفس أسلوبه الفنى لا سيما وأن فى تكوينات عثمان ثمة تأثر كبير بشادى عبد السلام الذى ترك بصمة عميقة فى تشكيل رؤيته الفنية، إلا أن الاختلاف فى الأقصر جاء من خلال تقديم العملين كمتوالية قصصية على عكس ما اعتاده عثمان من قبل فى أن يقدم كل لوحة كعمل مستقل، إذ تتناول اللوحة الأولى فكرة العبور إلى الحياة الأخرى، أما اللوحة الثانية فتسجل حالة الحزن على المتوفى التى تعيدنا لفكرة النائحات.
الدمج المجتمعى وملتقى الأقصر للتصوير
على الرغم من أهمية الملتقى فيما يكشف عنه من طاقات فنية مذهلة فيما ينتج من أعمال فنية مميزة، إلى جانب ارتباط كثير من الفنانين الأجانب بالحضارة المصرية ليصبح كل منهم سفيرا للثقافة المصرية، إلا أن جانب مهم من الملتقى يتمثل كذلك فى كثير من الفاعليات التى يتضمنها برنامج الملتقى، إذ يوضح الفنان ياسر جعيصة قومسير الملتقى أن الدورتين السابعة عشرة والثامنة عشرة من ملتقى الأقصر اتخذتا من «الدمج المجتمعي» محورًا أساسيًا؛ وفتحت أبواب الملتقى أمام فئات متعددة من المجتمع، فقد تم إشراك طلاب كلية الفنون الجميلة بجامعة الأقصر للعمل مع الفنانين طوال فترة الملتقى، إلى جانب مشاركة مجموعة من طلاب إحدى جامعات العاصمة الإدارية فى برنامج الملتقى، وكذلك تمت دعوة طلاب مدارس التعليم العام الإعدادى والثانوي، ومدارس الصنايع للمشاركة فى ورش فنية من 11 صباحًا ل 2 مساءً لمدة خمس أيام، بهذا التداخل بين أربعة مستويات تعليمية ومهنية إلى جانب الفنانين القادمين من مصر ومختلف دول العالم، خرج الملتقى إلى فضاء المجتمع، مانحًا الشباب فرصة لمعايشة تجربة فنية حقيقية ترسخ لديهم الإيمان بقيمة الفن كمجال إبداعى، فالغرض أن يعود الأولاد لذويهم ليروى كل منهم عن تلك التجربة، وأن يحمل كل منهم لوحته ويحاور فنانين يمارسون الفن فعليا فيما يرسخ عند كل منهم أهمية الفن.
كذلك فثمة جانب مهم آخر يتعلق الملتقى يتمثل فى تكريم رموز الفن والثقافة من مصر والعالم عبر دوراته منذ انطلاقه فى 2008، فى هذا العام تم تكريم كل د. حسن عبد الفتاح الذى تمتد تجربته التشكيلية لأكثر من ستين عاما وكان له دور بارز فى تأسيس كلية الفنون الجميلة بالأقصر وكذلك الفنان د. محمد شاكر الفنان المهم والملهم الذى حوّل مرسمه الخاص فى الإسكندرية إلى متحف لأعماله، ليضم مئات الأعمال فى التصوير والاسمبلاج الكولاج وغيرها... وكذلك تم تكريم الدكتور أنيللو إرتيكو وهو أستاذ فى علم الاجتماع وعلم النفس وعلوم الأعصاب، وتمتد اهتماماته الأكاديمية والعملية إلى حفظ التراث وإدارة مواقع التراث الثقافي.
كما أنه أكاديمى وشاعر مشهور، ومن كبار المُعجبين بتاريخ مصر وثقافتها، وهو كذلك مؤسس و رئيس مؤسسة بورتا شيلى الثقافية تعزيز التعاون والحوار الثقافى بين دول البحر المتوسط، من خلال مشروعات دولية وبرامج أكاديمية ومعارض ومبادرات.
والحقيقة أن المعمارى حمدى السطوحى، مساعد وزير الثقافة ورئيس قطاع صندوق التنمية، اكتفى خلال حفل الختام بكلمة مقتضبة بتوصيف دوره ودور فريق العمل فى صندوق التنمية الثقافية فى ملتقى الأقصر للتصوير بكلمة الميسّر، ورغم بساطة العبارة وقصرها، إلا أنها تكشف عن إدراك ثقافى ناضج لطبيعة العمل فى المشروعات الإبداعية الكبرى. فاختيار كلمة الميسّر يعكس احترامًا لديناميكية العملية الثقافية بتهيئة بيئة حرة وخصبة للإبداع. والإشارة إلى هذا الدور تحديدًا تُبرز فهمًا عميقًا لطبيعة الملتقيات الفنية، حيث يصبح النجاح الحقيقى مرهونًا بقدرة المؤسسة على خلق مناخ يسمح للفنانين بالتعبير، وللأفكار بالتحرك، وللحوار بأن يتشكّل بين مختلف المشاركين والفاعليات.
نقطة ضوء بارزة فى المشهد الفنى المصرى والعربى
لقد أصبح ملتقى الأقصر الدولى للتصوير عبر دوراته الثمانية عشرة نقطة ضوء بارزة فى المشهد الفنى المصرى والعربى حسبما ذكر وزير الثقافة خلال كلمته بحفل الختام مضيفا أن الملتقى بمثابة جسر يصل مبدعى العالم بروح مصر الخالدة. حيث يلتقى الفن الحديث بتنوع مدارسه مع التراث الإنسانى العريق، ليُقدّم خطابًا بصريًا متجددًا يضيف إلى حضارتنا دون أن يُكررها. مضيفا : شهدنا هذا العام أعمالًا فنية غنية بالابتكار والتجريب، استلهمت من سحر الأقصر وطبيعتها وصروحها الأثرية. أعمال تكشف عن روح تبحث عن المعنى وتُعيد صياغة علاقتها باللون والضوء والعالم. وهذه هى رسالتنا فى وزارة الثقافة: أن يكون الفن مساحة للحرية، وبابًا للاكتشاف، ومنصة تجمع كل الأطياف لصنع جمال جديد. ونؤكد من هنا أن وزارة الثقافة مستمرة فى دعمها للملتقى، لترسيخ مكانة مصر كحاضنة دولية للفن والفنانين، وجسر حضارى يمتد من مجد الماضى إلى أفق المستقبل.
وقد شارك فى ملتقى الأقصر هذا العام كل من الفنانين يوليا زوكوفا من روسيا، وأكسانا يوداكيمينيكا من بيلاروسيا، وسيرجاى بييتيلا من فنلندا، وألما ادريزى من مقدونيا، وفابيو ماسيمو وأنطونيو مانفريدى من إيطاليا، ناتاشا لين من بريطانيا/ الصين، بهايدن من ألمانيا، ييب يو تشونج من جمورية سنغافورة، كما شارك من الدول العربية كل من الفنانين عمر راشد من مملكة البحرين، والفنانة ماريا قرمدى من المملكة المغربية، والفنان حامد سعيد من العراق، والفنان فهد المعمرى من عمان، أما الفنانين المصريين فقد شارك كل من د.أحمد رجب صقر، ود.مصطفى عيسى وعمر الفيومى، وأحمد جعفرى وأحمد عثمان، وتسنيم المشد، ورشا سليمان، وسمية الحداد، وطاهر حمودة.
إن الحديث عن ملتقى الأقصر ممتد بامتداد التجربة وبتجدد اللقاء عاما بعد عاما بما يطرحه من أفكار ورؤى وأعمال فنية، ومن الأقصر إلى قصر الأمير طاز الذى أفضل أن أكتبه كمشهد ختامى لمتلقى الأقصر الدولى للتصوير هذا العام، حيث استضاف طاز أمسية ملهمة حول قضايا الهوية والتراث بمشاركة المعمارى حمدى السطوحى ود.أنيلو أرتيكو ضيف شرف ملتقى الأقصر.. حوار امتد لقرابة ثلاثة ساعات عن التراث والهوية وكيفية إعادة توظيف الأثر والفرق بين إعادة التوظيف والاستخدام، وعن دور المجتمع فى الحفاظ على الأماكن الأثرية.. أفكار عديدة وأسئلة كثيرة تم طرحها خلال الأمسية أعتقد أنها تحتاج لملتقى آخر على صعيد مختلف استكمالا لذلك الحوار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.