قبل التاريخ بتاريخ والمصرى الفطرى بطبعه يعرف التوحيد ويتوارث الإيمان عن الأجداد، وسحر جغرافيا المكان وهبته الذكاء الفطرى والقدرة على الفرز والتمييز بين من يحبه ومن لا يحبه، وبهذه الفطرة لم يحبوا الخديو عباس حلمى الأول ربيب الإنجليز، بينما أحبوا الخديو عباس حلمى الثانى لأنه أحبهم وشهدوا فى عهده الإنجازات التى لم يعرفوها من قبل فى كل المجالات، وكان عنيداً صارماً فى الحفاظ على مقدرات مصر والعمل على تنميتها رغم أنف السلطة البريطانية التى اصطدم بها، لكنه خلال 22 عاماً من حكمه لمصر أستطاع أن يبنى وينجز مئات المشاريع الحيوية، ونجح فيما لم ينجح فيه غيره لوضع قدم مصر على بساط دولة المؤسسات الحديثة، وسنتعرف على كل هذا فى السطور التالية : وُلد الخديو عباس حلمى الثانى فى 14 يوليو 1874 بالإسكندرية، وتولى حكم مصر فى 8 يناير 1892خلفاً لوالده الخديو توفيق وكان عمره 18 عاماً، وانعكست العلوم الحديثة التى تلقاها فى سويسرا وباريس والنمسا على طريقة وأسلوب تفكيره فى تحديث الدولة فعمل على تطوير التعليم الحكومى واهتم بالصحافة والحياة السياسية لكى يكون هناك حراك وطنى كان يشجعه لتحقيق الوعى فى حركة الاستقلال، فقام بتأسيس النقابات وتطوير الرقعة الزراعية وإنشاء قناطر أسيوط وسد أسوان وقناطر إسنا، وشهد عصره نهضة مالية ومصرفية، وتفاوض مع الباب العالى لتحديد الحدود الشرقية بين مصر والشام، ومصر والدولة العثمانية، وتفاوض مع الباب العالى ليصل عدد جنود الجيش المصرى إلى 18 ألف جندى،، وظهرت فى عهده حركة وطنية جديدة تزعمها مصطفى كامل، وسمح بتطورات مهمة فى الحياة السياسية، ونجح فى تطوير البنية التحتية فى المواصلات بافتتاح شبكة خطوط ترام القاهرة سنة 1896 حينما كانت إفريقيا غارقة فى الظلام، ووضع حجر الأساس لكوبرى إمبابة، وكوبرى أبو العلا، وكوبرى الملك الصالح، وكوبرى الجلاء وكوبرى عباس الذى حمل اسمه. ويرجع له الفضل فى وضع خطة شاملة لترميم الآثار الإسلامية بداية من عام 1895 عندما رأى أنها مُعرضة للضياع ومنها: جامع السلطان حسن، ومسجد عمرو بن العاص، ودارسو الآثار المصرية القديمة، والآثار اليونانية والرومانية والإسلامية يدينون له بالفضل فى إنشاء وافتتاح المتاحف الكبرى، ومنها : المتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية، والمتحف المصرى فى التحرير، ومتحف الفن الإسلامى، والمبنى الجديد للكتبخانة، والمتحف القبطى بمصر القديمة، ولهذا يعتبره الأثريون أبو المتحفيين الحقيقى، وتأسست فى عهده جامعة القاهرة، وأنشأ وافتتح محطة رمسيس للسكك الحديدية، وقصر المنتزه، وشهد عهده تأثيراً متصاعداً للصحافة والثقافة فى مناخ يتمتع بهامش من الحرية ويفوق ما كان مُتاحاً فى إسطنبول وفى بلاد الشام، مما جعل القاهرة ملاذاً آمناً للباحثين عن حرية الرأى والفكر والإبداع، وأصبح هناك ازدهار نسبى فى دور الأزهر والمدارس العليا، ويرجع له الفضل فى أن تكون القاهرة من أفضل مدن العالم. ورحب الإنجليز به فى بداية حكمه ظناً منهم أن صغر سنه وانعدام خبراته سيسهل لهم السيطرة عليه كما فعلوا مع والده الخديو توفيق، ولم يتوقعوا أن يكون على عداء معهم ومعرقلاً لطلباتهم ومهدداً لمصالحهم وتفضيل المصلحة الوطنية المصرية على ما عداها من مصالح الآخرين، وعُرف لدى الجميع بحسه الوطنى العالى وحبه الشديد لمصر، فكان ينتهج سياسة إصلاحية يتقرب بها إلى المصريين والحركة الوطنية التى يساندها فى مقاومة الاحتلال البريطانى، واختلف مع السياسات السابقة لوالده الخديو توفيق لدرجة أنه أصدر عفواً عن أحمد عرابى وسمح له بالعودة الى مصر ومنحه راتباً شهرياً حتى الممات، ونتج عن صلابة مواقفه المتعددة ضد مصالح الاحتلال أن اتفقت بريطانيا العظمى على خلعه من منصبه، وانتهز الإنجليز فرصة بوادر نشوب الحرب العالمية الأولى وكان وقتها الخديوى خارج مصر فخلعوه من الحكم وطلبوا منه عدم العودة ونصبوا عمه حسين كامل سلطانًا على مصر بدلًا من أن يكون خديوى وفرضوا على مصر الحماية رسميًا.. وصدر قرار العزل فى 19 ديسمبر 1914 واعلن وزير الخارجية البريطانى القرار قائلاً: «أنه بالنظر لإقدام سمو عباس حلمى باشا خديوى مصر على الانضمام لأعداء جلالة الملك، رأت حكومة جلالته خلعه من منصب الخديوى»، والحقيقة، إن عزل الخديو عباس حلمى الثانى ونفيه لخارج مصر كان بذريعة أنه عارض سياسات بريطانيا فى مصر، ولكن وفاء المصريين جعلهم يهتفون فى مظاهراتهم ضد الاستعمار بهتاف شهير يقولون فيه «الله حى عباس جاى» على أساس أنه رمز لسيادة مصر والتأكيد على أن خلعه ونفيه كان من جانبٍ واحدٍ بدون موافقته، ودون موافقة السلطان العثمانى صاحب الحق الرسمى فى تعيين وعزل حاكم مصر، وبعد مفاوضاتٍ أجراها رئيس الوزراء إسماعيل صدقى باشا فى مقابل ثلاثين ألف جنيه دفعتها الحكومة المصرية للخديو عباس حلمى الثانى تنازل عن العرش وغادر مصر مجبراً والشعب الذى أحبه ظل يردد «الله حى.. عباس جاى»، وبعد مغادرته تعمد الإنجليز تشويه مسيرته وإنجازاته والعمل على طمس تاريخه !! أقام الخديو عباس حلمى الثانى بعد مغادرته لمصر فى فرنسا متنكرًا ثم غادرها إلى تركيا، وفى 25 يوليو 1914 أثناء خروجه من الباب العالى قام شاب مصرى يدعى محمود مظهر بإطلاق الرصاص عليه، وقال الخديوى عن هذه الحادثة : «شعرت قبلها بانقباض فى صدرى، وعندما رأيت الشاب يصوب المسدس نحوى تمكنت من الإمساك بيده ودفعته بعيدًا فى الوقت الذى لم يتحرك فيه الحرس إلا متأخرًا وأصابنى بعض الرصاص ولكن فى مناطق غير مميتة وتناثرت الدماء على ملابسى وكيس نقودى ولكنها لم تصل إلى المصحف الذى كنت أحمله وهذا من لطف الله ، وحتى لو وصلت إليه لما مس هذا من قداسته»، وتسبب الحادث فى تأخير عودة الخديوى لمصر، فلم يعد السفر عبر البحار مأمونًا، وبعد حصول مصر على الاستقلال أصدر الملك فؤاد الأمر الملكى رقم 25 لسنة 1923 الخاص بتنظيم وراثة العرش فى أسرة محمد على، وجاء فى المادة الثالثة منه نص خاص يقضى باستثناء الخديو عباس حلمى الثانى من تولى العرش ولو استحقه طبقاً لقاعدة الأكبر من الذكور فى أسرة محمد على، ولقى الخديو عباس حلمى الثانى المحبوب من جميع المصريين ربه فى منفاه بسويسرا فى التاسع عشر من ديسمبر سنة 1944 أثناء حكم الملك فاروق الأول، ومن الصدف الغريبة أن تاريخ وفاة الخديو عباس حلمى الثانى توافق مع تاريخ خلعه عن حكم مصر، ولكن بعد 30 عاماً، جاءت وفاة الخديو عباس حلمى الثانى فى ظل الحرب العالمية الثانية، وعاد جثمانه إلى مصر فى 26 أكتوبر 1945 وتم دفنه فى مقابر أسرة الخديو توفيق بالقاهرة، ورحم الله الخديوى الذى أحبه كل أهل مصر دون بقية حكام الأسرة العلوية لأنه قدم الكثير من الإنجازات والإنشاءات التى أسسها وتم افتتاحها فى عهده.