أحمد الزناتى كتب الروائى الأمريكى المعاصر جوناثان فرانزن فى كتابه مشروع كراوس (The Kraus Project): «ينطبق كثير مما كتبَه كارل كراوس على عصرنا أكثر مما ينطبق على عصره». منذ زمن وأنا أنوى الكتابة عن كارل كراوس، فهو ابن الحقبة الذهبية المحببة إليَّ فى تاريخ الأدب الألمانى الحديث، الحقبة التى أنجبت أفذاذًا وُلِدوا فى عصر واحد تقريبًا: كافكا، روبرت موزيل، هيرمان بروخ، ليو بيروتس الذى ترجمتُ له عملين، والثالث فى الطريق، وفرانتس بلَى وغيرهم ممن طواهم النسيان. ولد كراوس عام 1874 لأسرة يهودية ثرية فى بوهيميا وانتقل إلى فيينا طفلًا، ثم طوى صفحة الجامعة والتمثيل، وترك اليهودية واعتنق الكاثوليكية الرومانية، قبل أن يخرج على الكنيسة هى الأخرى؛ وفى ذلك ما يقول الكثير عن طبيعة شخصيته المعروف عن كراوس أنه أمير فن الشذرة/القول المأثور فى الأدب المكتوب بالألمانية فى القرن العشرين، وقد سار على نهجه لاحقًا أديب نوبل إلياس كانيتى كما ذكر فى إحدى مقالاته. عن تعريف الشذرة يقول كراوس: (لا تطابق الشذرةُ الحقيقة أبدًا؛ فهى إما نصف حقيقة، وإما حقيقة ونصف)، ويواصل: (يظن قرائى أننى أكتب لعصرهم، لأننى أكتب من قلب زمنهم؛ لذا وجب على أن أنتظر حتى تشيخ كتاباتى، فعندئذ قد تستعيد راهنيتها). هذا هو محور كلامى هنا: لِمَ قد نحتاج إلى قراءة كارل كراوس اليوم كما يؤكد فرانزن وغيره؟ بشيء من البحث لم أجد أفضل من هذا الكتاب Ich bin der Vogel, der sein Nest beschmutzt: Aphorismen, Sprüche und Widersprüche لتقديم كارل كراوس، وهو مختارات اتخذت عنوانًا شاعريًا «أنا الطائر الذى يدنِّسه عشُه: شذرات، حكم، ومفارقات»، وهى أنطولوجيا انتقاها الناشر من بين جملة نصوص كرواس. حمل الكتاب عنوانًا ساخرًا (أنا الطائر الذى دنّسه عشُه)؛ وبهذا الإقلاب اللغوى البديع للمثل الألماني«Ein schlechter Vogel, der sein eigenes Nest beschmutzt، أى (شرّ الطير من يدنس عشَّه)، قَلَب كارل كراوس الاتهام رأسًا على عقب فبدلًا من أن يُدان كراوس بأنه يسلق أحوال مجتمعه المعوجة بألسنة حداد، يعلن أنه الضحية التى لوّثها عشُها، لا الجانى الذى يلوِّثه. ومن هذه الالتفاتة اللغوية العبقرية صنع كراوس مثالًا خالدًا فى تاريخ السخرية الناقدة، إذ حوّل التهمة إلى إدانة للمجتمع بأسره. يقول كراوس نصًّا: (إنّ المثل القائل: شر الطير من يدنّس عشه ليس إلا إسقاطًا بشريًّا مشوّهًا على عالم الطيور؛ فالإنسان، الذى يجرؤ على إدخال دنائته إلى حظيرة الكائنات الحرة، يتوهّم أنّ الطائر يختار تلويث مأواه، وكأنّ ذلك من طبائعه والحقيقة أنّ الطائر، إذا وجد عشه متّسخًا، أقبل على تنظيفه بعزم وهكذا تنقلب الاستعارة إلى كارثة: فالواقع هو الدنس، لكن تصويره أدبيًا يُسمّى «تدنيسًا» على ألسنة من غرقوا فى الوسخ ويجتهدون فى ستره). يرى كراوس أن الحداثة (ممثلة فى سيطرة الصحافة والمثقفين البهلوانات وقتها على حد تعبيره) بدلًا من أن تنقذ الإنسان، قلبت الحياة رأسًا على عقب؛ لذلك اتخذ من العيش بالمقلوب (كما سأبين فى فقرة تالية دلالة التعبير)، موقفًا واعيًا. هنا تظهر مفارقته الجوهرية: العالم مقلوب، فمن الطبيعى أن يعيش الإنسان الحكيم مقلوبًا. تأسس نقد كراوس للصحافة آنذاك على فكرة أنها لا تنقل الحقيقة بل تختلقها؛ وهو حال العالم اليوم، حيث تختلق السوشيال ميديا ومهرّجوها كذبة، ويروّجها لها «المهرج/الأراجوز الثقافي»، ويسير فى ركبها مئات الألوف. وقد انتقيت للقارئ شذرات بدا لى أنها تمثل واقعًا نابضًا أمام أعيننا. يقول كراوس: (لقد حاولت أن أعيش على نحو طبيعى، لكن سرعان ما شعرت بآثاره الحزينة على جسدى وروحى، فقررت أن أبدأ حياةً غير معقولة قبل أن يفوت الأوان وها أنا اليوم أرى العالم من وراء حجاب جديد، حجاب لا يكتفى بأن يخفف وطأة بؤس الأرض، بل يمنحنى أيضاً رؤى مبالغاً فيها عن لذائذ الحياة الممكنة. وفى حالتى تبيّن أن قاعدة العيش على نحو مقلوب قد صمدت أمام كل اختبار، فى عالمٍ مقلوب رأسًا على عقب.كنت أنهض يوميًا مع شروق الشمس وأخلد إلى الفراش مع غروبها؛ غير أن موضوعية الشمس الفجّة، إذ تشرق على الناس جميعاً بلا تفرقة، غير مبالية بما فيهم من عيوب ومثالب، ليست مما يروق كل نفس. ومن يفلح فى الإفلات من خطر النظر الصريح إلى هذه الأرض، فقد أحسن صنعاً، وذاق لذة أن يتجنّبه الناس لأنه هو نفسه قد آثر اجتنابهم. وكان مما يشيع البهجة فى صدرى أن أستيقظ مع صياح الديك وأخلد إلى النوم حينما يهبط المساء، حين كان اليوم ينقسم إلى صباحٍ ومساء لكن سرعان ما شاع تقسيم آخر: صحيفة صباحية وصحيفة مسائية، بينما يترقب العالم الأحداث ومع ذلك، فإن من يتأمّل كيف ينحنى العالم أمام خضوع البشر المتزايد لسطوة الأخبار، ولو كانت مكذوبة، حتى يغدو الزمان والمكان — وهما ركنا الحقيقة — صورتين مزوّرتين يعبث بهما الصحافى كما يشاء؛ من يُدرك هذا إدراكًا جليًّا، لا يرى أعقل من أن ينقلب على جنبه، ويضع رأسه على وسادته، تاركًا هذا العالم لأهواء باعة الأخبار وصانعى الأوهام». وفى شذرة أخرى يقول: «تقوم ثقافتنا على ثلاثة أدراج متقابلة، ما إن يُفتح أحدها حتى يُغلق الآخران تلقائيًا: العمل، اللهو، والتعليم أمّا دمى الصين المتحركة، فيكفيها إصبع واحد لتدير شؤون الحياة بأسرها، فلا تعترضها صعوبة فى أيّ أمر. يا لروعة ذلك «المستقبل الأصفر» الذى بشّرت به القومية الصينية». وفى شذرة لعلها أجمل ما كتب كراوس فى ظنى، لأنها تجسد حال واقعنا اليوم، وأتمنى لو وضعها كل مثقف حلقًا فى أذنه يقول: «تتجلّى قيمة التعليم بوضوح عندما يتحد المثقف فى مسألة تقع خارج مجال معرفته». «التعليم هو ما يتلقاه أغلب الناس، وينقله كثيرون، وتمتلكه قلة». إذا سُرق منك شيء، فلا تذهب إلى الشرطة، فهى غير مهتمة، ولا إلى المحلّل النفسى، فكل ما يهمه أن يثبت أنك السارق. الآراء السديدة لا وزن لها؛ لأن مربط الفرس رأسُ حاملها! تتميز أقوال كارل كراوس المأثورة بالأصالة والدقة والحدة، وبأسلوب ذكى وساخر يكشف ازدواجية المجتمع وعيوبه. من خلال مجلة Die Fackel، وجه كراوس نقدًا لاذعًا لكل من زملاء المهنة من الكُتاب الأفّاكين، ومحللى علم النفس المتعجرفين، وأصحاب الأخلاق الاجتماعية الطافحة بالنفاق الأخلاقى والجشع. عن علاقة الرجل بالمرأة وازداوجية أخلاق المجتمع فى عصره، وفى عصرنا يقول: لا يتضمن القانون بكل أسفٍ مادة تُدين الرجال الذين يغوون فتاة بريئة على وعدٍ بالزواج، ثمّ يتنصّلون من كلّ شيء بعد أن توافق الفتاة، وتُسلم نفسها. فى عُرف المجتمع ليس من اللائق أن يتزوج الرجل بامرأة كانت لها علاقة برجل سابق؛ لكن أعراف المجتمع لا تجد غضاضةً فى أن يقيم علاقة مع امرأة متزوجة. مِن الرجال من يغوى بعضَ النساء ثم يتركهنَّ، ومنهم من يتزوج ثم يُهمل كل شيء؛ الفئة الأخيرة هى الأشد قسوة ودناءة. وعن الفن يقول: لم يبق فى العالَم مبدعون، بل وكلاء عنهم. ما يدخل الأذن بسهولة، يخرج منها بسهولة؛ وما يدخلها بصعوبة، يخرج منها بصعوبة. وهذا ينطبق على الكتابة أكثر من الموسيقى. وعن الكتابة والكتاب يقول: يستطيع بعض الكُتّاب أن يُعبّروا فى عشرين صفحة عما قد أحتاج أنا إليه فى جملتين فقط. تبدأ مسيرة الكاتب غريبة عليه، لكنها تمضى فى بدايتها سهلةً ميسورة. ثم لا تلبث أن تزداد عسراً، حتى إذا تمرّس واعتاد الكتابة، وجد نفسه أحياناً عاجزاً عن إتمام جملة واحدة. يعبر الصحفى عما خطر فى ذهن القارئ مسبقًا، لكن بصياغة لا يقدر على بلوغها كل ربّ قلم. على الكاتب أن يعيش أكثر مما يقرأ لتثقيف نفسه، وأن يقرأ أكثر مما يكتب لتزكية روحه. يكتب بعض الناس لضعف شخصياتهم، إذ لا يملكون القدرة على الامتناع عن الكتابة. ليس الكاتب المبدع عُرضةً لوابل الرسائل المجهولة الطافحة بالسباب كما يُخيَّل للناس؛ فمن بين كل مئة حمار، لا يقرأ سوى عشرة حمير فقط. كان عزم الكاتب جان بول الشاب تأليف الكتب ليتمكن من اقتناء الكتب، وأما عزم كُتّابنا الشباب فهو الحصول على الكتب كهدايا للاستعانة بها فى تأليف كتبهم. لم أشأ أن تتحول هذه المادة إلى ترجمة بعض شذرات كراوس وحسب كان الرجل، شأنه شأن ذلك الجيل العجيب الذى تنبّأ بأحداث القرن العشرين برمتها مثل ألفريد كوبن فى «الضفة الأخرى»، متنبئًا بأحداث الأيام الآتية ولأن كراوس لم يكن يكتب شذراتٍ معزولة عن مجتمعه، بل كان يخوض معركته الكبرى ضد انحراف الحداثة ، فقد وجد باحثون معاصرون أن فكره يشكّل لبنة أساسية فى نقد الحداثة ذاته. فى أثناء الدعبسة وجدت كتابًا لباحث اسمه آرى ليندن (Ari Linden) أستاذ الدراسات الألمانية المشارك فى جامعة كنساس بعنوان (كارل كراوس وخطاب الحداثة). لم أستطع الحصول على الكتاب، لكن المراجعات المنشورة حوله تفيد بأن نقد كراوس للإعلام ينبغى أن يعد إسهامًا مهمًا فى التنظير للحداثة الأوروبية، وبالأخص نزعاتها التدميرية والفوضوية فى النصف الأول من القرن العشرين. يعيد الكتاب وفق المراجعات تقييم بعض أبرز أعمال كراوس الأدبية، ويقارن نصوصه بمفكرين أوروبيين أكثر شهرة مثل سورين كيركجارد (وقد أشرتُ لكلام كيركجارد حول هذه النقطة خصوصًا فى مقالة قبل سنة هنا فى «بستان الكتب»)، وفالتر بنيامين (فى مقالة أيضًا فى «بستان الكتب» من شهور عن أفول السرد)، وتيودور أدورنو لاحقًا. يرى ليندن أن نقد كراوس للصحافة لا ينفصل عن الخطابات الكبرى التى تناولت مأزق الحداثة، مؤكداً أن كراوس كان معنيًّا بالشروط التى قد تؤدى إلى شنّ حروب لا داعى لها، وتسمح بتفكيك الدول، وانهيار المجتمعات، وتُفسح المجال لترسيخ التطرف الإيديولوجى. لم يعش كارل كراوس ليرى منصة إكس أو تيك توك أو فيسبوك، لكنه كل شذرة كتبها تبدو اليوم – على الأقل فى نظرى - وكأنها تعليق مباشر على تغريدة أو ريلز فضائحيّ، أو خبر مزيف أثار فتنة أو أشعل حربًا. ما كان ينتقده كراوس فى صحافة فيينا مطلع القرن العشرين من اختلاق الأحداث، وابتذال اللغة، واستباحة الحياة الشخصية للأفراد وتحويلها إلى مادة للتسلية (بدعوى حرية التعبير)، وتمكين مهرجى الثقافة الموجودين فى كل زمان وأوان من السيطرة على العقول – هو بعينه ما نعيشه اليوم، لكن بسرعة أكبر وانتشار أوسع. من بين الشذرات التى ترجمتُها آنفًا: الصحافة لا تنقل الحقيقة، بل تختلقها. هذا ما قاله كراوس عام 1914 تقريبًا. واليوم نقول الجملة عن السوشيال ميديا والأخبار الملفقة، لكنى أضيف: والخوارزميات تختار لنا أى نسخة من الحقيقة نراها رأى كراوس كيف تحولت الصحف النمساوية فى الحرب العالمية الأولى إلى مسرحية سخيفة، وكيف صنع الإعلام واقعًا مزيفاً دفع المجتمع إلى الهاوية؛ فالخبر الزائف ينتشر أسرع من الحقيقة، والبشر ميالون إلى تصديق الأكاذيب والإشاعات – مع علمهم بزيفها - لتسكين ضمائرهم، وتهدئة أعصابهم وتبرير إخفاقاتهم. تكافئ الخوارزميات الاستفزاز والكذب ونشر الإشاعات لأنها تولّد تفاعلاً، وهو ما سبق أن نوّهتُ به فى مقالة سابقة عن بيونج تشول هنا قبل أشهر. تبدو أعمال كراوس اليوم أشد راهنية مما كانت عليه فى زمنه كما أشار فرانزن فى أول المقالة، والسبب أن تشخيصه الجريء لانحرافات التقدم الحضارى: من تضليل الإعلام، وانحطاط استعمال الناس للغة، وصناعة الواقع عبر الخبر المزيف، اتخذ فى عصرنا الراهن صورة أشد رداءة. فما كان وقت كراوس نقدًا للمشهد الثقافى الأدبى فى فيينا أمسى اليوم تشريحًا دقيقًا لعقلية السوشيال ميديا، ومنطق الخوارزميات التى تُسند صدارة المشهد إلى مهرجين ثقافيين يملكون القدرة على تشكيل رأى عام ببوست أو رِيل أو تغريدة (تدنس العشّ)! ومع ذلك فقد بدأت ألاحظ ظاهرة غريبة وباعثة على الاطمئنان فى الوقت نفسه: كلما غرق العالم أكثر فى ضجيج السوشيال ميديا والأخبار المضروبة والآراء السائدة، زاد رجوع الكُتاب والمفكرين إلى الأقدمين لفهم الحاضر. صار كراوس يستعاد اليوم ويقرأ قراءة أوسع مما حظى بها فى حياته، ولا تزال المطابع تغدق علينا بطبعات جديدة من أعمال فالتر بنيامين وحنا آرندت وأدورنو فى قراءات عصرية، وأتابع كل يوم على فيسبوك ومنصة إكس دور النشر الغربية تعلن عن إصدارات جديدة حول إعادة اكتشاف أفكار كانط وأفلاطون ومونتينى وسبينواز وبرجسون (صدر كتابان فى الشهر الجارى عن إعادة قراءة أفلاطون وأرسطو)، ومحاورتهم من منظور اللحظة التاريخية الراهنة ربما لهذا السبب اختار الناشر هذه الشذرة عنوانًا للمختارات: لأنها تلخص مأساة كراوس، ومأساتنا اليوم أيضًا. أتسائل: أكان من قبيل العبقرية أن يتخذ كراوس تعبيرَ (الطائر الذى يدنّسه عشه؟) مثالًا على أحوال مجمتعه وقتذاك؟ أكان تنبؤًا بفكرة التغريدة (التويتة سابقًا) أو البوست السريع المحلّق سريعًا كطائر؟ صار اليوم كل واحد بين راحتيه قنبلة صغيرة يسترشد بها، فإذا به يكتشف أن العش أدنس مما كان يظن، ومع ذلك ثم تراه يبثّ صورة الدنس مباشرةً، ويضع تحتها تعليقًا ساخرًا، ويضغط نشر، وينتظر Likes.