المنوفية- ايمان البلطى لم يكن حسن الجزار يتخيّل أن يومه الأخير سيبدأ بهذه البساطة. شاب منوفى هادئ، يعيش في قرية منيل دويب بمركز أشمون، يعمل في مزرعة بشمال سيناء و اصطحب أسرته ليستقروا معه هناك. حسن، الذى لم يتعلّم السباحة يومًا، لم يكن يعرف أن القدر يخبّئ له بطولة ستخلّد اسمه طويلاً. في صباح يوم الحادث، كانت سيارة ميكروباص تقل 13 فتاة جامعية في طريقهن للجامعة. لحظة واحدة كانت كافية لتتحول الرحلة إلى كارثة، بعدما انقلبت السيارة وسقطت في مصرف مائي بجوار الأرض التي يعمل فيها حسن. ما أن سمع الصراخ حتى انطلق لم يفكر، لم يتردد، لم يسأل إن كان يعرف السباحة أو لا، قفز إلى الماء وحاول بكل ما يملك من قوة أن ينتصر على خوفه وضعفه، بدأ يسحب الفتاة تلو الأخرى، يخرجهن واحدة بعد الأخرى، فيما كانت أنفاسه تضيق وملابسه تتشبث بجسده المثقل بالماء. ثلاثة عشرة مرة صعد حسن من أعماق الخطر، وثلاثة عشرة مرة نجح في انتزاع ضحية جديدة من الموت، وعندما ظن الجميع أن المأساة انتهت، قرر حسن أن يعود للمياه ليتأكد أن لا أحد بقي هناك، لكن تلك المرة كانت الأخيرة، فالإجهاد الذي حطّم جسده لم يترك له فرصة للعودة. سقط حسن، وابتلع الماء أنفاسه الأخيرة، وخرج الشاب بجسده مسجّى، لا يتحرك، لكنه خرج بطلًا. رحل حسن، ليجتمع بطرف القدر مع أخيه كريم الذي توفي قبل 3 سنوات في حادث آخر، ويترك والده ووالدته في لوعة فقدان لا تحتمل. يقول والده أحمد، بصوت يتهدّج تحت ثقل الفاجعة:»حسن كان محترم وهادي وطيب... عمره ما زعل حد. كان متزوج ومعاه 3 بنات، الكبيرة في تالتة ابتدائي. قبل الحادث بيوم كلمني، كان عيد ميلاد بنته هدى، وجهزت لها تورته وهداية وكنت مسافر من بدري عشان أحضر معاهم، وأنا في الطريق كلمني حد وقال حسن تعبان شوية، ماقالوش إنه مات، وكنت فاكر تعب من الشغل. لكن وصلت لقيت إن ابني مات وهو بينقذ البنات. ثم أضاف الأب: «ربيت أولادي على المروءة، وعشان كده حسن مقدرش يشوف حد بيغرق ويسيبهم. نزل وهو مش بيعرف يعوم... نزل لأنه راجل. آخر مرة نزل فيها كانت روحه الأخيرة.» لم تكن قرية منيل دويب التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية، تتوقع أن تستيقظ على وداع بطل خرج من بين بيوتها البسيطة؛ شاب بسيط الملامح، كبير الفعل، اسمه حسن أحمد الجزار.. الرجل الذي رحل وهو يؤدي أسمى ما يمكن أن يقدمه إنسان: إنقاذ الأرواح. في مشهد وداع مهيب، شيّع الأهالي جثمان الشاب الذي ضحّى بنفسه لإنقاذ 13 فتاة جامعية سقط بهن ميكروباص داخل مصرف بمحافظة الإسماعيلية، ليكتب نهاية بطولية لا يجيدها إلا أصحاب القلوب البيضاء. زوجته حكت بصوت يختلط بين الفخر والوجع:»كان كل يوم يقول لي لازم أسيب للبنات مستقبل آمن، راح وهو بينقذ بنات غيره. بس فخورة إنه مات راجل وبطل، الناس كلها بتحلف بحياته، لكن هو مات وساب بناته، وربنا يتولاهم ويتولانا». أما شقيقه، فكشف كيف اندفع حسن دون تردد نحو الميكروباص الغارق بعد انفجار إطاره، والطالبات يصرخن طلبًا للنجدة. ورغم أنه لا يجيد السباحة، قفز إلى المياه، وبدأ ينتشل الفتيات واحدة تلو الأخرى، يقاوم تيار المياه وإجهاد اللحظات، حتى أخرج 13 فتاة إلى برّ الأمان. شقيقه أكّد أن حسن لم يكن يسعى إلى بطولة، ولم يتصنع موقفًا: «حسن كان قلبه على الناس.. وربنا كتبه يمشي بعمل خير، يشهد له العمر كله». في قرية منيل دويب، عمّ الحزن، الجميع عرف حسن، الشاب الخلوق، الخدوم، الذي عاش بسيطًا ومات عظيمًا. دعوا له أن يتقبله الله من الشهداء، وأن يربط على قلب أب فقد ولدين في ثلاثة أعوام، ويحمل الآن أمانة تربية 3 بنات صغيرات فقدن الأب والسند. وبين دموع الأسرة، ودعاء القرية بأكملها، ظل اسم حسن يتردد: «مات بطل.. وخلّى بناته يمشوا وراسهم مرفوعة. اقرأ أيضا: انتشال جثة شخص غرق بنهر النيل في القناطر الخيرية