هانى منسى تقدّم رواية «شامة سوداء أسفل العنق» للروائى جهاد الرنتيسى - والصادرة عن دار المرايا، 2024 - نصًّا يعيد تشكيل خطاب المقاومة والغياب والهوية عبر بنية سردية مفتتة تعتمد تيار الوعى والرسائل والفلاش باك محركا بَنائيا يُوظف التشظّى السردى فى تحويل الخصوصيّات التاريخية إلى تجربة إنسانية كونية، وإظهار عجز الفعل السياسى والأمنى عن منح الشرعية للوجود والهوية. تهيمن حالة الهروب من الرقابة الظاهرة (السلطة، الأجهزة، المجتمع...) وضآلة قدرة الفعل الذاتى لدى البطل، فالتداعى يعبر عن تشظٍّ داخلى لا عن تحرّر فعلى للعقل. كما أن الرقابة فى الرواية ليست مجرد آلية سياسية؛ هى حالة وجودية رقابة على الوعى والعقل، تجلت فى تصرّفات الأبطال وفى تفاصيل المراقبة اليومية (الشارع، المدرسة، العين المراقبة). اختصار «القضية» إلى كلمة واحدة دون صفاتها (فلسطينية أو غيرها) يجعلها قضية عالمية/كونية: تتحول من مسألة محددة إلى رمز لكافة قضايا العالم تظهر القضية كعمومية إنسانية اختزال «القضية» دون توصيفها مباشرة يقوّيها رمزيًا ويحوّلها إلى كناية عن كلّ المعاناة. وبالتالى يمنح التعميم النصّ بعدًا إنسانيًا عالميًا. يعمل التعميم على منح الرواية بُعدًا إنسانيًا كونيًا، وفى الوقت نفسه لا يُخفى خصوصية المعاناة ولعل هذا ما يحدث الآن، بعد قرابة العامين على صدور الرواية، حيث تبنت شعوب العالم القضية ورفعت أعلام فلسطين فى كل مكان من العالم، رغم تخاذل حكوماتها تسعى الرواية لتحويل الخصوصى إلى عمومى كى تستعيد قدسية القضية بوصفها إنسانية قبل أن تكون سياسية. يتخذ جهاد الرنتيسى تيار الوعى كاستراتيجية بنائية للسرد، ليس مجرد عرض لوعى بطل مُشتت؛ بل استراتيجية تُحاول اختراق منظومة الرقابة عن طريق القفزات الزمكانية، الانتقالات دون إعلان. التحوّلات بين السرد المباشر وغير المباشر تضع القارئ فى حالة لهاث، سواء كان ذلك كأداة جمالية أم آلية دفاعية نفسية للبطل. لكن ذلك لا يحرر بطل الرواية، بل يكشف تشظّى قدرة الفعل واعتلالها. يأتى الفلاش باك كشذرات متشظية بالتوازى مع فقدان التاريخ، غياب التوطين التاريخى بالتاريخ التفصيلى هو قرار فنى، فالوقت هنا مخزون شعورى. ما يهم الكاتب هو مزج الشعور بالحدث، لذلك تُستدعى الذكريات لأجل موسيقى داخلية ونبرات شعورية متضاربة، ولا تهدف لترتيبٍ كرونولوجى أو تتبع خطى للأحداث التاريخية التى تظهر فى خلفية الرواية. يحول هذا الأسلوب السرد إلى طبقات شعرية متراكمة، تكوّن موسيقى داخلية للنص أكثر منها سردًا زمانيًا. لذلك يجتمع ويمتزج تراكم مشاعر متشابهة ومتناقضة داخل الفقرة نفسها؛ مما يبرر الانتقالات السريعة بين السرد المباشر وغير المباشر، ويمنح النص طابعًا تأمليًا/تحليليًا يقترب من أسلوب الباحث فى بعض الأحيان. يضفّر السرد بتقنية الرسائل كشبكة سردية، حيث تلعب رسائل فانيسيا ريدغريف ورسائل الشخصيات الأخرى دورَ بنيةٍ موازية للراوِى، فهى تُحرّك صراع القيادة، المواجهة مع التعتيم، وتشكل نافذةً على نقد النخبة. من هو السارد؟ يظهر السارد كامتداد لوعى البطل/السارد، يزاوج بين التأمل الفلسفى والتحليل النقدى. هذه المؤازرة بين السارد والبطل تقرّب النصّ من خطاب تجريبى يوازى بين الذاتى والسياسى، بين التأمل الفردى والبحث الاجتماعي. تظهر الرموز والمحاور الدلالية بشكل مكثف فى الرواية، فنجد مثلا القبو يمثل الرحم حينا والسجن فى أحيان كثيرة، فالقبو فى الرواية متعدد الوظائف: هو ملاذٌ يُكتب فيه، ومكانٌ يختزن الرسائل ويقدّم الأمان، وهو فى الوقت نفسه سجن عاطفى ونفسى هذه الثنائية تجعل منه رمزًا مركزيًا لفكرة الوطن البديل: مكان لا يحرّر ولا يمنح الحماية الكاملة القبو له طقوسه الخاصة لدى البطل، فهو مركز للكتابة والرسائل والمخاطبات الداخلية؛ هو المكان الذى يُحكى فيه السرّ ويختبئ الألم، لكنه فى الوقت نفسه سجنٌ نفسى. يمثل الطفل (غيث) الشرعية المفقودة، غيث رمز للانتماء المقطوع؛ مراقبة الأب له من بعد تعكس عجزًا عن منح شرعية الوجود فى أرض الغربة الصرخة المكتومة المكلومة «هذا لى» أمام العالم الذى لا يستجيب لحظة ذات دلالة وجودية فهو ابن غير شرعى ل (جواد الديك) لكنه يعيش فى كنف البدلة العسكرية فى وطن بديل، يستقل سيارة عسكرية إلى المدرسة، ومن الطبيعى أن يحيى علم دولة أخرى. مما يعنى انطواء صرخة البطل على رغبة فى امتلاك التراب/الهوية/فلسطين. الطفل هنا ليس مجرد شخصية فردية، بل نموذج لفقد المستقبل/الوطن / الهوية /الوجود/الشرعية، وتعبيرًا عن الشتات بشكل عام فى أى زمان ومكان. تظهر المدرسة فضاء مقارنات بين شرعيتى الهوية والمواطنة؛ يرمز مشهد الخروج من بابها والمسافة الفاصلة مع الابن للحرمان من الاعتراف بحقيقة واقعة رغم شهادة التاريخ والجغرافيا، يتلمس النص من خلال هذه المقاربة العصب العارى للجحود العالمى. الشامة فى الرواية علامة للجسد والذاكرة، بدء من العنوان «شامة سوداء أسفل العنق» الذى يحمل دلالة جسدية - ذاتية : الجسد موقع للذاكرة، العار، والهوية. وبالتالى لا تستخدم الشامة هنا كزينة، بل كندبة / آثر. تلك الندبة مكانها يختلف من شخصية لأخرى، كمرايا تعكس ألم الذات والآخر. فانيسا/الفن تمثل المقاومة بالتمثيل والتوثيق، يشكل حضورها والأفلام الأجنبية سعيًا لرد الصورة المشوهة عن القضية؛ يأخذ الفن هنا منحى الفعل الاخلاقى والجمالى، ومحاولة «إعادةِ امتلاكِ الصورة الحقيقية/ الواقعية». فى مقابل الإعلام المؤدلج، وهنا يقف الفن كمرآة إنسانية فى وجه العالم القبيح. لا يظهر الجنس حميميا بل للإفصاح عن موت الشعور. الممارسة الجنسية فى النص تبدو مفرغة من الإحساس؛ تصبح صورة لحياة «غير حية» فى الوطن البديل. علاقات البطل النسائية مبتورة ومؤقتة تُمارَس فى الخفاء وبلا التزام أخلاقى أو عاطفى هذا الطابع ليس بالضرورة توجّهًا سوداويًا فحسب، بل نقدًا اجتماعيًا: كيف تصنع الأرض البديلة إنسانًا منكوبًا عاطفيًا؟ كيف تُمَثّل الغربة خلعًا من المشاعر وإقصاءً للروابط الإنسانية؟ يضفى إدخال أسماء مثقفين وفنانين (مثل محمود درويش وكنفانى...) بعدًا تأريخيًا وثقافيًا ويعطى ثِقَلًا للشخصيات الهلامية؛ هذه الحركة تمنح السرد «شرعية» وتحوله إلى نص ذائع الصلة بالذاكرة الجمعية. تسمح الفجوات التى يتركها السارد للقارئ بالمشاركة الفعّالة فى استكمال المعنى هذا الأسلوب يؤكد التزام النصّ بنظريّة التلقى: القارئ شريك فى الإبداع، ومساحة الاستقبال تُعدّ جزءًا من النصّ تفضى هذه التقنية إلى جعل القارئ «شريكًا فى السباق» مع الوعى: لا ذروة تقليدية، لا تسلسل منطقى تام، ونتيجة ذلك حالة قرائية لاهثة وهى تجربة جمالية تعمل على إبقاء القارئ فى حالة اضطراب توازى اضطراب الشخصيات. يميل الأسلوب إلى المزج بين نبرة شعرية (تراكم الصور) ونبرة تحليلية/بحثية (التأمل، التعليق على خطاب سعد الخبايا). هذا المزج يجعل النصّ أكثر غنى لكنه يضع متطلبات على القارئ: صبر على التتابع وتقُبّل التشظّى. «شامة سوداء أسفل العنق» عمل سردى غنيّ وقابل لقراءات متعددة يحوّل الخصوصية إلى عمومية تمنح النص بُعدًا عالميًا، يقدم الكاتب نصًّا مهاجمًا للزمن المستقر، مُعلِنًا أنّ الفعل الفنى يمكن أن يكون ميدان مقاومة يسمح بإعادة صوغ هويات ممزقة رغم أنف القهر والرقابة، جعلت الرواية «القضية» رمزًا إنسانيًا عالميًا، واستخدمت التشظّى السردى، تيار الوعى، والتناص الثقافى، وطقوس الرسائل. يعتمد نصّ الرواية على إحساس بالشعرية والوعى السياسى؛ ليجد القارئ نفسه امام متطلبات قراءة تتمثل فى ضرورة خفض صوت المعرفة المسبقة والمشى تحت مصابيح معلقة، تومض بالمعنى حين يقرر أن يملأ الفراغ.