أم كلثوم التى غنّت للملك فاروق «يا ليلة العيد»، هى نفسها التى أصبحت بعد سنوات الصوت المدوّى لثورة يوليو وجمال عبد الناصر، ليس تناقضًا بل هو جوهر الفن الحقيقى الذى لا يعرف الاصطفاف ولا يلتزم إلا برسالته.. السياسة ترسم حدودًا وأسوارًا، والفن يفتح الأبواب ويخلق مساحة واحدة تلتقى فيها القلوب حتى وإن تباعدت الأفكار. وفى احتفالات القوات المسلحة بأعيادها، وحين تنطلق الموسيقات العسكرية، نشعر أنّ النغم يستدعى البطولة من أعماق الذاكرة، «الله أكبر فوق كيد المعتدى»، «يا صباح الخير يا سينا»، «خلّى السلاح صاحى» وعشرات الملاحم الغنائية، وتشعر أنها ليست مجرد موسيقى، بل إيقاع جندى يقف على الحدود، وصرخة وطن لا يعرف الانكسار. أم كلثوم أيضًا كانت تقودنا فى الجانب الآخر من الحياة، والمشاعر التى ترفع الإنسان من أرضه إلى سماء أوسع، وفى صوتها كانت الهمسات تتحول إلى طقوس، تصنع حالة لا يعرفها إلا من يتذوق المشاعر الإنسانية، وكأنّ الكلمات تُولد من جديد مع كل استماع، وحين نسمع «أراك عصى الدمع»، وتصل إلى «فقلتُ كما شاءت وشاء لها الهوى قتيلُك، قالت: أيهم فهمُ كُثُرُ»، تجعلنا نسأل: من هى التى عذبت الفارس النبيل أبو فراس الحمدانى مؤلف القصيدة، القائد والشاعر الذى مات فى ساحة القتال عام 968 م. وكان الفن دائمًا ساحة للإبداع فى شتاء القاهرة فى الخمسينيات، فى ذلك المقهى الزجاجى فى شارع عماد الدين، قبل أن يتحول إلى متجر لقطع غيار السيارات، وكانت أم كلثوم وعبد الوهاب وكامل الشناوى يجتمعون كأنهم مجلس طرب، ويُحكى أن فاتنة السينما كاميليا دخلت عليهم ذات مساء، فقالت أم كلثوم لكامل الشناوى: «ألم ينزل عليك وحى الشعر أمام هذا الجمال؟»، فكتب على الرخامة قصيدة ولحّن عبد الوهاب، وغنّت كوكب الشرق حتى الصباح. ولا يمكن المرور فى حديقة الفن دون الوقوف عند «لقاء القطبين» أم كلثوم وعبد الوهاب، بعدما فرّقت بينهما السنوات، وجاء اللقاء برغبة من جمال عبد الناصر، فكانت لحظة فارقة فى تاريخ النغم المصرى، وكُتب سطر جديد فى مجلدات الفن الذى صنع وجدان أجيال. وهكذا يبقى الفن، فى كل تحولاته رسالة توحّد، وملاذًا ومرآة لوجدان المجتمع فى كل الأزمنة، ويعيد بناء الروابط الوطنية، وتبقى مصر محرابًا للفن وقِبلةً للفنانين، وتكتب الأعمال العظيمة تاريخًا موازيًا، ويبقى نجوم الفن الخالدون شاهدين على أن الفن هو الحقيقة التى لا يغيّرها صخب السياسة ولا تقلّبات الخلافات. إنه الصوت الذى يتجاوز الانقسام، والنبض الذى يعيد للناس قدرتهم على الحلم، والجسر الذى يربط بين الماضى والمستقبل حين يعجز الخطاب السياسى عن لَمّ الشمل، فينهض الفنّ ليصلح ما أفسدته السياسة، ويصوغ وجدانًا موحّدًا، ويذكّرنا دائمًا بأن الوطن أكبر من كل الأشياء .