هناك أفلام لا تبدأ من الشاشة، بل من داخل الروح، من تلك الشقوق الدقيقة التى نُخفيها عن أنفسنا قبل الآخرين فيلم «ابن» أحد هذه الأعمال النادرة التى تقترب من الإنسان بحذر، كطبيب يختبر جرحًا عميقًا لا يزال ينزف منذ اللحظة الأولى، يفرض الفيلم حضوره كعمل يتجاوز حدود السرد التقليدى، يذهب مباشرة إلى طبقات تشكّل جوهر العلاقات العائلية، حيث يختلط الخوف بالحب، والحنان بالصمت، والذكرى بالجرح الذى لم يلتئم كل مشهد محاولة لفهم ما لا يُقال، وكل نظرة طريق إلى حقيقة لا يريد أحد مواجهتها. فى عمله الروائى الطويل الأول، يقودنا المخرج الإسبانى «ناتشو لاكاسا» إلى منطقة شديدة الحساسية فى المشاعر الإنسانية، حيث تتداخل الأبوة بالخوف، ويتحوّل الحب أحيانًا إلى عبء، ويصبح الطفل -قبل الجميع - الشاهد الصامت على ما لا يُقال فى هذا الممر الضيق بين البراءة والصدمة، ينهض «ابن» كأحد أبرز أفلام المسابقة الدولية قدرةً على إعادة تعريف هشاشة الإنسان ولغته الداخلية.. الفيلم المصنوع بحساسية عالية ودقة لافتة ينتمى إلى فئة الأعمال التى لا تكتفى بالحكاية، بل تنقّب فى طبقات النفس، وتضىء أعمق المناطق ظلمة فى العلاقات العائلية. اقرأ أيضًا| «اليعسوب» يحصد جائزة الهرم الذهبي في ختام القاهرة السينمائي ويخرج فى نهاية المطاف كأحد أكثر أفلام الدورة ال46 ترشيحًا لحصد الجائزة الذهبية، لما يملكه من قوة سردية، وأداء آسر، وبراعة إخراجية لا تعتمد على الإثارة أو المفاجآت الصاخبة، بل على ذلك القلق الهادئ الذى يتسلل ببطء إلى النفس، ليكشف أماكن مظلمة خلف ابتسامة طفل أو خلف صمت أب يحاول أن يبدو قويًا. يكتب لاكاسا فيلمه كما يكتب شاعر مرثيةً شخصية، يلتقط من طفولته جروحًا مبعثرة، ومن رواية أليخاندرو بالوماس ملامح عالم مأزوم، ليعيد تشكيله بلغة سينمائية صادقة لا تبحث عن حلول جاهزة. أنه ليس فيلمًا عن العنف الأسرى أو اليُتم أو الفقد؛ بل رحلة داخل ذاكرة أليمة تتفكك فيها مشاعر الأب والابن، وتُوضع فيها الأبوة نفسها تحت مجهر الأسئلة. إنه فيلم عن هشاشة الروح الإنسانية، عن تلك الطقوس الصامتة التى نمارسها لإخفاء جراحنا عن أبنائنا، وعن الوهم الكبير بأن الأطفال لا يرون. الأم الغائبة الحاضرة تشبه صندوق ذكريات صغيرًا نعود إليه لنكتشف أن حنانها كان دائمًا هناك، يهمس حتى فى الغياب هذا البعد العاطفى يُضيف طبقة جديدة للفيلم، تجعل المشاهد فى مواجهة نفسه قبل مواجهة الشخصيات، وتجعل السؤال مطروحًا بلا تجميل: هل نربّى أبناءنا حقًا أم نعيد إنتاج جراحنا فيهم؟ منذ المشهد الأول، يضعنا الفيلم أمام أب لا يجرى تقديمه بصورة مثالية، بل إنسانًا قابلًا للكسر، مهرولًا بين خوفه وحنينه، يحمل حبّه لزوجته كغيمة ثقيلة تظلّل كل حركة يقوم بها. بينما يقف طفله «جيل» أمامه كمرآة صامتة تلتقط العطب ولا تستطيع النطق به هنا يكمن جمال «ابن»: فى قدرته على نزع القداسة عن الأبوة ووضعها فى حجمها الإنسانى الحقيقى، بكل آلامها ورغباتها وضعفها. وسط هذا التوتر، تأتى شخصية ماريا، الأخصائية النفسية قليلة الخبرة، لتكون الجسر بين العالمين. تلتقط بحساسية نادرة، أن الطفل يخفى مأساة تتجاوز حدود الرسوم التى يخطّها. تؤمن بأن الرسم لغة، وأن ما يعجز عنه اللسان يمكن أن تقوله الألوان. ورغم مقاومة الأب العنيفة، تمضى فى محاولة لفكّ شفرة الألم. فى أداء هادئ وعميق قدمته ماكارينا جارسيا، بحضور إنسانى يليق بتيمة الفيلم. اختيار الممثل هيجو سيلفا لدور الأب كان ضربة ذكية موفقة فى صميم العمل قدرته على تجسيد رجل منكسر يختبئ خلف صرامة مفتعلة واحدة من أعظم نقاط الفيلم. أما الطفل إيان كورتيخيرزو فيقدّم أداءً مفاجئًا يفوق عمره، كأنه يحمل سرًا أكبر من سنواته الثماني الكاميرا بدورها تتحرك كأنها تتنفس مع الشخصيات؛ تعرف متى تقترب، ومتى تبتعد، ومتى تترك المشهد يتنفس وحده.. وجاء «لاكاسا» - بخبرته الإنتاجية الممتدة عبر خمسة أفلام شاركت فى مهرجانات كبرى- ليضع بصمة أكثر نضجًا وقدرة على تحرير السينما من زيف الشعور وإعادتها إلى صدقها الأول. كل شىء يجرى بسلاسة تشبه انسياب الألم، بلا ضجيج ولا حيل، دون لحظة واحدة يشعر فيها المشاهد بأن اللقطة تتجمّل على حساب الحقيقة. يستحضر الفيلم سحرًا خفيفًا يذكّر بعوالم «مارى بوبينز»، لكنه ليس سحرًا ينقذ الشخصيات من أحزانها، بل يمنحها القدرة على مواجهتها دون أن تنكسر هنا يظهر الجانب الذاتى للمخرج، إذ يعيد عبر مشاهد الفيلم ترميم ذاكرة شخصية لا يبوح بها، لكنه يحوّلها إلى ذاكرة جماعية، كأن الفيلم ليس عن أب وطفل فقط، بل عنّا جميعًا ونحن نعيد سرد طفولتنا فى كل علاقة جديدة. يملك فيلم «ابن» الشجاعة فى طرح أسئلته، والصدق فى النظر إلى هشاشة البشر، والبراعة فى تقديم قصة عميقة دون أن يستسلم للميلودراما أداء الشخصيات الثلاثة يشكل مثلثًا فنيًا نادرًا يتقاطع فيه الألم مع الحنان، والضياع مع الرغبة فى النجاة. إنه فيلم يترك ندبة صغيرة فى الروح، ويفتح الباب أمام سؤال: هل نحن أبناء لقصص أحبّتنا أم لقصص لم تعرف كيف تُحب؟ الفيلم واحد من أكثر أفلام هذه الدورة قدرةً على ملامسة الإنسان، وكشف هشاشته، وإعادة صياغة علاقة الأبوة فى سياقها الأكثر صدقًا وإنسانية. ولهذا يستحق، وبجدارة، أن يكون فى صدارة الأفلام المرشحة لجائزة الهرم الذهبى هذا العام.