في زمن انقلبت فيه الموازين، لم يعد العيب عيبًا ولا الخطأُ خطأً، صار الفخر عند البعض لا يقاس بالخلق أو بالعلم أو بالنجاح، بل بالسوابق وعدد المرات التي دخل فيها الزنزانة أو السجن، وهذا ما يحدث الآن في فضاء رقمي يلوذ إليه شباب ما عاشوا بعد، فتجدهم في مشهد أقل ما يوصف بالغرابة فيحولون أفعالهم الخاطئة إلى استعراض زائف، نعم مرارًا وتكرارًا تحدثنا كثيرًا عن سوء البعض منا استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لكن أن يرتدي نزيل مراكز الإصلاح والتأهيل بعد خروجه ثوب البطولة، وأن يروج للخروج من خلف القضبان باعتباره علامة شجاعة أو مفتاح كل شيء، فهنا نكون أمام وقفة تستحق الانتباه منا، فمراكز التأهيل هذه ما هي إلا إصلاح للنفس، يعود بعدها النزيل شخصا صالحا ومفيدا للمجتمع، لا أن نراه يرويج لقيم مقلوبة، يراها جمهور من الشباب والمراهقين الذين يشاهدون في هواتفهم تلك الفيديوهات على التيك توك، المرعب أن البعض قد يرى من سجنه أو حكم عليه كأسطورة، قد يظنون أن السجن هو سكة النجاح أو وسيلة للتميز، من هنا نحن نبدأ تحقيقنا في عوالم الإنترنت، بين هؤلاء الذين صاروا يبحثون عن الشهرة والترند وسرعة الإعجاب، تسللت صورة مقلوبة للذنب وللخطيئة وللسجن، السؤال الذي يثار هنا:كيف تحولت مركز الإصلاح في نظر هؤلاء بعد قضاء العقوبة وخروجهم إلى منصة استعراض؟!، تفاصيل أكثر سوف نسردها لكم داخل السطور التالية. خرجوا من السجن ليجدوا في الشاشات جمهورًا جديدًا على «تيك توك»، بدلا من الاستفادة من دروس الماضي، نجدهم يستعرضون ماضيهم الأسود يحولونه إلى مصدر شهرة والبحث عن متابعين في مشاهد تثير الخوف أكثر مما تثير الدهشة والاستغراب وربما الضحك! الموجة التي ظهرت غريبة ومخيفة على تيك توك تحديدًا، موجة أشخاص خرجوا من السجون بعد قضايا متنوعة، بعضهم تم حبسه في قضايا بلطجة وسرقة ومشاجرات وغيرها من الجرائم، وبدلا من أن يبدوا الندم ويبدأون حياة جديدة بعيدة عن الماضي، قرروا فتح الكاميرات وأن يحكوا لمتابعيهم عن بطولاتهم خلف القضبان، كأنهم أبطال في فيلم أكشن وليسوا أشخاصًا فيما سبق خالفوا القانون، الغريب والمفزع أن تلك الفيديوهات تحولت لترندات.. ملايين المشاهدات والتعليقات التي تمجد وتصفق وتضحك، كأن من سجن أصبح رمزا للرجولة والجدعنة، لكن الأخطر من كل هذا أن هناك أطفالا ومراهقين يشاهدونهم، ويتعلمون أن السجن ليس نهاية، وأن الذي يقضي عقوبة يعود نجمًا، وللأسف هذا ليس فقط تزييف للوعي.. بل كارثة تربوية وأخلاقية تشكل جيلًا يشاهد الجريمة وكأنها مغامرة وليست خطأ استوجب العقاب. فما يحدث على تيك توك اليوم ليس مجرد حرية تعبير أو فضفضة، بل هو سم أخلاقي يسكب في أكواب من الضحك والدراما والمؤثرات البصرية، يتسلل إلى عقول الشباب بهدوء، ليزرع أفكارًا خطيرة عن البطولة والشجاعة داخل السجن.. ويجب علينا جميعًا إعلام ومجتمع وأُسر أن نتحرك فورًا، قبل أن يصبح هذا التسلل جزءًا من عقول أبنائنا ويدمر مستقبلهم، فإن ترك الجيل الجديد يتربى على وهم أن السجن تجربة بطولية، يعني أننا نسلمه بأيدينا لمستقبل سنندم عليه جميعًا، احكي عن الخطأ ليعرف الناس كيف يتجنبونه، لا لتتباهى به، لأن من يتفاخر بالسجن يبقى أسيرًا بقيوده، حتى لو خرج من وراء الأسوار. فيديوهات قصيرة ففي حقيقة الامر البداية كانت بسيطة فيديوهات قصيرة لا تتجاوز الدقيقة، لكنها تتجه إلى العقول كالسم، وجوه قاسية، نظرات حادة، أصوات غليظة تروج لأيام الرجولة والشدة داخل السجن، وهكذا بدت ظاهرة جديدة على منصة تيك توك، حيث تحول سجناء سابقون وأصحاب سوابق جنائية إلى رواة قصص فخرهم داخل الزنازين، ليس من زاوية الندم والمراجعة، بل من زاوية البطولة والاعتزاز بالماضي الإجرامي، فهناك أسماء كثيرة مثل «أ.ا» «أ.لا» «ف.ا»، «م.أ»، «ا.ا» وغيرهم الكثير والكثير، بدأت تنتشر لهم العديد من الفيديوهات على تيك توك، وتتنافس في سرد حكايات الزنزانة، وحياة الحبس والسجن، والشدات داخل السجن، وجميعهم يشتركون في رسالة واحدة نحن أقوياء ولم يقدر علينا أحد حتى داخل السجن!.. الاغرب أن في بعض الاوقات يردون على بعض في فيديوهاتهم بطرق أغرب من الخيال! ليسوا سجناء بالتواصل مع الدكتور على عبدالراضي استشاري الصحة النفسية وعضو الاتحاد الدولي للصحة النفسية، بدأ حديثه قائلاً: إن الاستعراض والمزايدة النفسية، ماذا يعني هذا الكلام؟ كل إنسان يحب أن يستعرض تاريخه، أمجاده، بطولاته، نجاحاته، أي شيء مميز يمتلكه، أي موهبة عنده، من لديه صوت جميل يغني بصوته، ومن يعرف الرسم يقول: أعرف أن أرسم، ومن يجيد صناعة الموسيقى يقول: أعرف أن أصنع الموسيقى، ومن يمارس التمثيل يقدم أداءه ويعرضه على تيك توك، وساعد الناس على استعراض الأجزاء الموجودة في حياتهم، وليس فقط ذلك، بل حتى النساء يستعرضن، ونحن نعرف بما يستعرضن، ولماذا يسمح لهن بذلك. فهي ليست مجرد وجهها المكشوف أو المغطى، بل تستعرض ما تمتلكه من قدرات ومواهب، وهذا الكلام واضح ومعروف.. أما الشاب الذي يريد أن يستعرض، فلماذا سيستعرض؟ مع أن نوع الاستعراض الذي يمتلكه موجود بالفعل، فإذا بحثنا على تيك توك سنجد أشخاصًا يستعرضون الملابس الداخلية ويعرضون أجزاءً من أجسامهم، سواء كان لديهم ميول جنسية معينة أم لا، لكنه يريد الحصول على مشاهدات، هوس المشاهدات، هوس أن يُرى، بمعنى آخر، الكثير من الأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي لديهم نقص داخلي وشرخ نفسي، وهذا الشرخ يريدون ملؤه. فمن يملك شيئًا ما يستعرضه، ومن لا يملك شيئًا يحاول إيجاد أي حوار أو موقف ليستعرض به، فالشخص الذي يريد أن يبرز شيئًا لم يفعله أحد، يعتقد أنه أتى بجديد، فيبتكر ما يسمى الغربوية، واللفظ الصحيح لها المغربين، وهذا العمل مرتبط بمن يكون محبوسًا في سجن من محافظة ويذهب إلى محافظة أخرى، واللفظ هذا لا يتداول إلا بين من لهم علاقة بدائرة السجن مثل المأمورين والأمنيين أو الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين المتعاملين مع السجن، وهم على دراية بهذه اللغة، ومنذ أن بدأ أي شخص بالحديث عن السجن، كنت أتابع الأحداث، وعملت في السجون ووضعت برامج تأهيلية في بعض مراكز الإصلاح والتأهيل وأنا مطلع جيدًا على مشاريع العلاج بالعمل لمؤسسة الإصلاح، وأتعامل مع مشاريع متعددة مرتبطة بالسجون، أفهم تمامًا الأفكار السائدة لدى المساجين واللغة التي يتحدثون بها، كما دعني أوضح أن الفيديوهات المنتشرة من بعض المساجين، فهي بلغة المساجين الخاصة، والناس المحبوسة حاليًا ليس لها وزن ولا قيمة على وسائل التواصل الاجتماعي، فأولئك الذين يظهرون ويتحدثون ليسوا من السجناء الحاليين، ولا يمثلون الواقع الحقيقي داخل السجن، بعضهم لم يدخل السجن العام، بل دخل أقسام شرطة وأجري معهم تحقيقات قصيرة المدة، وبالنسبة له، هذه الأحداث مجرد شيء ليستعرضه، رغم أنه ليس لديه شهادة يتحدث بها، ولا أدوات لتوضيح الحقيقة للناس، ولا مواهب ليعرضها، ولا خبرة حقيقية مثل الآخرين، فلذلك يبدأ بصنع مغامرات وقصص خيالية للتسويق لفكرة لم يعشها بحثاً عن المال، لو اختبر تجربة السيطرة في السجن، لعرف معنى السجن الحقيقي وأنا كشخص عملت في مجالات مختلفة مع السجون، أتعامل مع المدمنين والمجرمين كإنسان، وأفهم طبيعة سلوكهم، لكن الفيديوهات المنتشرة على السوشيال ميديا لا تمثل المدمنين ولا المجرمين. هي مجرد شخص يعاني من فراغ نفسي ونقص داخلي، يحاول ملؤه بأوهام وبطولات وهمية، ونتيجة لذلك يبدأ الشخص بالاهتمام بالترندات والمشاهدات، ويظن أن نشر أي كلام، مهما كان، سيحقق له قبولًا واحترامًا من الفئة التي يستهدفها، لكن من يعتقد أنه يحصل على احترام من المجتمع العام، فهو مخطئ، فكل ما يفعله مجرد استعراض وهمي، وفي المقابل، الفيديوهات تنتشر وتظهر أن السجن مكان للبطولة والسيطرة على الآخرين، لكن الواقع مختلف تمامًا، كما أن السجون هي مؤسسات عقابية وإصلاحية، وليست مكانًا للتباهي أو استعراض القوة، فأكثر من 98% من السجناء يخضعون للرقابة والضبط، ولا توجد المشاهد الخيالية التي يتم تصويرها على وسائل التواصل الاجتماعي، أي تجاوز أو محاولة فرض سلطته على الآخرين تؤدي إلى عقوبات حقيقية، كما من الضروري أن يعلم الأب والأم عند مشاهدة هذه الفيديوهات أن يقوموا بحظر هذه النوعية فورًا، ورفع بلاغات ضدها، لأن هذه الفيديوهات تصدر للجيل الجديد فكرة خاطئة أن السجن مغامرة، وأن السيطرة على الآخرين فيه علامة قوة. وإذا كان هناك شخص يعتقد أن السجن يمنحه خبرة للسيطرة على الآخرين، فهو يعيش في وهم، لأن معظم السجناء يخضعون لنظام صارم، ولا توجد هذه السيطرة كما يصورها البعض، والنتيجة ان هؤلاء الأشخاص لا يقدمون المعرفة الصحيحة، بل ينقلون أفكارًا زائفة، ويحولون وصمة العار الذي لحق بهم والعار الاجتماعي إلى بطولات وهمية، ويبيعون الأخطاء المنطقية ويغرسون مفاهيم خاطئة في المجتمع. فكل من يشاهد هذه الفيديوهات قد يتأثر، خاصة من لديه نقص نفسي أو رغبة في الانفلات، ويعتقد أن ارتكاب الجريمة والسجن أمر عادي ومقبول، وهذا ما يسمىالإرهاب الاجتماعي، إذ يحرض الأفراد على السلوك الإجرامي، ويضعف الضبط الاجتماعي والقوانين، ويهدد السلام المجتمعي، ويشوه العقاب الذي هدفه الإصلاح والردع، فالسجن ليس مكانًا للمغامرات، بل مؤسسات تهدف إلى إصلاح السلوكيات وإعادة تأهيل الأفراد، وليس لتزييف الواقع وبيع الأوهام للمجتمع. تحريض على الجريمة ليستكمل الدكتور محمد الحسيني أستاذ علم الاجتماع حديثه قائلاً:هي ليست ظاهرة ولا يمكن أن نعتبرها ترند لكنها تعبيرا عن اضطراب قيم المجتمع في عصر السوشيال ميديا، التي اصحبت بها الشهرة أهم من السمعة، فللاسف يعيش بيننا من هو مستعد لفضح نفسه من أجل المشاهدات والمجتمع يشاهد دون انتقاد وهذا مؤشر خطر على انهيار منظومة القيم التي كانت تميزنا، والخطر إن المراهق يشاهد تلك الفيديو وهو لا يفهم الخلفية القانونية، هو يشاهد شخصا اتسجن وخرج يمثل يستعرض كذبًا إجرامه، لكن لم يدرك معنى المعاناة ولا العقوبة والعار الاجتماعي الذي لحق به وبعائلته، وهذا يخلق لديه إحساس أن المخالفة بسيطة طالما أمامها شهرة وقوة، وأن الخطأ قد يتحول لترند، وهنا لابد أولًا أن يكون دور الأهل والمدارس، تثقيف الأبناء شرح معنى العقوبة، والفرق بين الخطأ وتمجيده، الرقابة الرقمية متابعة استخدام الأطفال للمنصات الرقمية وتنظيم الوقت والمحتوى، الحوار المفتوح الاستماع لتجارب الشباب ومناقشة الفيديوهات بشكل تحليلي بعيد عن الانفعال، ثانيًا دور الإعلام والمجتمع إطلاق حملات توعوية عرض قصص السجناء كدرس، لا كنوع من البطولة، تشجيع المؤثرين الإيجابيين نشر محتوى يبني الوعي، مثل قصص إصلاحية حقيقية أو مشاريع شباب ناجحة دون مخالفة القانون، ثالثًا دور الدولة والمنصات، إغلاق أو تعديل الحسابات الخطرة مراقبة المحتوى الذي يروج للعنف أو يمجد الجريمة، تحديد العمرفرض قيود صارمة على عرض محتوى السجن للفئات العمرية الصغيرة، تعزيز العقوبات القانونية معاقبة من يروّج للجريمة أو يحرض على المخالفة بشكل مباشر. اقرأ أيضا: حكم قضائي بحبس سوزي الأردنية لمدة عام وتغريمها 100 ألف جنيه