فى كل دورة من مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، يظل فيلم الافتتاح مرآةً لروح المهرجان، واختيارًا يكشف ملامح الاتجاه الفنى والفكرى الذى يود أن يقدمه للعالم؛ هذا العام جاء الفيلم البرازيلى «المسار الأزرق» للمخرج «جابريل ماسكارو» ليجسد تلك الروح الإنسانية العميقة التى تميّزه، وليمنح الجمهور لحظة تأمل فى معنى الكرامة والحرية، حين تصبح الشيخوخة آخر محطات النضال الإنسانى. اقرأ أيضًا| «تلك الممثلة وهذه الفلسطينية».. كتاب جديد يكشف عن رحلة هيام عباس بين الفن والهوية الفيلم الذى تشارك فى إنتاجه البرازيل والمكسيك وتشيلى وهولندا، ينقلنا إلى بلدة صناعية صغيرة على أطراف الأمازون، حيث تبدأ رحلة «تيريزا»، امرأة فى السابعة والسبعين من عمرها، تتلقى قرارًا رسميًا بالانتقال إلى مستعمرة سكنية مخصصة للمسنين. مستعمرة صارمة الملامح، تتحول فيها الحياة إلى صمتٍ طويل وانتظارٍ مؤدّب للموت، ويُختصر فيها الإنسان إلى «رقم» خارج دورة الإنتاج، وكأن النظام حلّ محلّ المعنى، والرعاية صارت شكلاً آخر من أشكال السجن، غير أن تيريزا ترفض أن تُساق إلى هذا المصير البارد، وتقرر أن تخوض رحلتها الأخيرة عبر النهر، بحثًا عن أمنية مؤجلة وحرية مفقودة، فى مواجهة نظامٍ يحوّل الشيخوخة إلى وصمة والنظام الاجتماعى إلى آلة تسحق الفرد تحت شعار «النمو والتطور»! منذ اللقطة الأولى، يضعنا المخرج أمام مفارقة صارخة: عالم يُقدّس الشباب والعمل والإنتاجية، ويهمّش من تجاوز سنّ العطاء الجسدي، متناسيًا أن الذاكرة والخبرة جزء من طاقة الحياة،» المسار الأزرق» ليس مجرد فيلم عن امرأة عجوز تبحر فى النهر، بل هو استعارة بصرية عن رحلة الإنسان فى مواجهة آلة العصر الحديث، وعن بحث الروح عن معنى فى عالمٍ فقد دفء العلاقة بين الأجيال. استطاع «ماسكارو» أن يقدّم فيلماً يوازن بين الشعرية والواقعية، مستعينًا بلغة سينمائية تتنفس بطء الأمازون وسكون الطبيعة، بينما يخفى تحت سطحها توترًا داخليًا شديد العمق. الكاميرا لا تراقب الأحداث، بل تتماهى مع بطلتها فى رحلة تأملية ضد النسيان، وكأنها تسير بنا على خيطٍ أزرق بين الحياة والموت، بين الامتثال والتمرد؛ والموسيقى المنسوجة على إيقاع النهر، تمنح الفيلم روحًا تأملية تجعل المشاهد يعيش تجربة داخلية أكثر منها بصرية. اختيار الفيلم لافتتاح مهرجان القاهرة السينمائى ليس صدفة، بل هو اختيار ذكى يعبّر عن الهوية الفكرية للمهرجان فى دورته السادسة والأربعين: سينما الإنسان قبل الحدث، وسينما الوعى قبل الاستعراض. إنه فيلم يدعو إلى التفكير فى معنى العمر، فى حقّ الكبار فى تقرير مصيرهم، وفى جدلية الحرية داخل مجتمعات تتعامل مع الشيخوخة كعبء لا كخبرة. ولعل أجمل ما يميّز هذا الاختيار أن مهرجان القاهرة يثبت مرة أخرى أنه لا يفتتح بالعروض البراقة بقدر ما يفتتح بفكرةٍ تستحق التأمل؛ إنه فيلم لا يُفتتح به المهرجان فحسب، بل يُفتتح به حوارٌ جديد عن معنى أن نعيش بحرية حتى النهاية. اقرأ أيضًا| إلهام عبد البديع تتألق بعودتها للقاهرة السينمائي بعد غياب طويل | صور فيلم «المسار الأزرق» هو احتفاء بالشغف الإنسانى فى وجه النمطية، ودعوة إلى إعادة التفكير فى مفهوم «الزمن الجميل» لا كماضٍ منتهٍ، بل كحاضرٍ يمكن استعادته بالإرادة والحلم. وفى رأيى، أن القيمة الكبرى للفيلم تكمن فى أنه يطرح سؤالًا إنسانيًا عالميًا: هل نُقاس بقوة إنتاجنا أم بقدرتنا على الحلم؟ وهو السؤال ذاته الذى يجعل الفيلم قريبًا من روح مهرجان القاهرة: فالفن الحقيقى لا يقيس الإنسان بعمره ولا بجدواه الاقتصادية، بل بقدرته على أن يروى قصته حتى اللحظة الأخيرة. الفيلم من بطولة «دينيز وينبيرج» فى أداء مؤثر وعميق، يُعيد الاعتبار لصوت المسنين وكرامتهم، بينما يشارك رودريغو سانتورو وميريام سوكوراس فى تقديم عالمٍ تتقاطع فيه السلطة بالحنين، والعزلة بالتمرد. أما المخرج «ماسكارو» فهو ينتمى إلى جيلٍ برازيلى جديد لا يخشى مساءلة النظام الاجتماعى والاقتصادى فى بلاده من خلال العدسة؛ فيلمه الشهير «ثور النيون» اختير ضمن أفضل عشرة أفلام فى نيويورك تايمز، أما «المسار الأزرق» فهو أكثر نضجًا ورهافة، حيث استطاع أن يمزج التأمل الفلسفى بالسرد الواقعى فى بناء سينمائى نابض بالحياة، لذا حصد جائزة الدب الفضى فى مهرجان برلين السينمائى الدولى، ورسّخ مكانة المخرج البرازيلى كأحد أبرز الأصوات السينمائية فى أمريكا اللاتينية، القادرة على تحويل التفاصيل اليومية إلى شعرٍ بصريّ يمسّ جوهر الإنسان. يلتقى الفيلم مع روح الكلمة التى ألقاها الفنان حسين فهمى فى افتتاح المهرجان، حين أكد أن السينما ليست ترفًا ولا وسيلة للهروب، بل هى مسئولية ووعى ودفاع عن الإنسان، فكلاهما «الكلمة» و«الفيلم» يلتقيان فى نقطة جوهرية، هى رفض الإقصاء بكل صوره، سواء كان إقصاء المسنين عن الحياة أو إقصاء الإنسان عن حريته. كما عبّر حسين فهمى عن إيمانه بأن الفن هو الذى يمنح الوجود معنى ويعيد للروح كرامتها، الفيلم جسّد هذه الفكرة على الشاشة، بلغةٍ شاعرية وصورةٍ بصرية مفعمة بالأمل؛ وكأن افتتاح مهرجان القاهرة بهذا العمل البرازيلى العميق، هو تأكيد رمزى على أن رسالة السينما واحدة مهما اختلفت اللغات: أن تظلّ الإنسانية هى البطل الحقيقى فى كل قصة تُروى.