تعالت فى الآونة الأخيرة أصوات الحديث عن تطوير الإعلام و«الحديث هنا عن الإعلام والصحافة معاً»، وازدحمت القاعات بندوات ومؤتمرات وخطب حول مستقبل الإعلام، فى ظل تحديات العصر، إلا أنه يغيب عن النقاش سؤال جوهرى لا يجوز إغفاله.. من أين يأتى التمويل؟ وكيف تستمر المؤسسات الإعلامية والصحفية فى أداء دورها دون قاعدة اقتصادية صلبة؟ الحقيقة أن الإعلام الذى يتخذ من الوطن قبلة، ومن الحقيقة منارة، لا يعانى فقط من منافسة الوسائط الحديثة، ولا من زحام المنصات، بل من أمر أشد خطراً، وهو الفقر المؤسسى، الفقر المالى، الفقر فى التخطيط.. أزمة الإعلام الآن فى الاستدامة، لم تعد المشكلة فقط فى مضمون الرسالة، بل فى قدرة المؤسسات على البقاء.. كيف نطالب بإبداع والإعلامى مثقل بالأعباء المادية؟ كيف نرسم سياسات تحريرية متقدمة، والصحفى يبحث عن التريند ليحافظ على وظيفته؟ المؤسسات تعمل بعقول متعبة وجيوب خاوية، الإعلانات تراجعت، الممولون ندروا، المنصات العالمية تلتهم الجمهور والإيرادات، والأجور تدهورت. لقد كنت ولا أزال من القائلين بأن الإعلام ليس ترفًا ولا زينة، بل هو إحدى ركائز الدولة الحديثة، ومظهر من مظاهر العقل القومى.. وركن من أركان بناء الوعى العام. الإعلام ليس انعكاسًا لصوت الدولة فقط، ولا صدى لاحتياجات السوق، بل سلاح استراتيجى فى معركة بناء الأمة، لكنه فى الوقت ذاته صناعة مكلفة.. لا يكفى فيها شغف الإعلاميين والصحفيين ولا اجتهادهم.. بل تتطلب بنية مؤسسية مستقرة، ورؤية اقتصادية واضحة، وقوانين تضمن التوازن بين الحرية والاستدامة.. وإذا لم نع هذا، وإذا لم نخصص موارد واضحة لهذه الصناعة، فإن كل أحاديث التطوير ستظل أقرب إلى الخطب.. علينا أن ندرك أن إصلاح الإعلام لا يكون بقرارات تٌكتب، ولا بتوصيات تٌرفع، بل بإرادة تٌنفذ، ومال يستثمر، وكفاءات تحترم. إن صناعة الإعلام تحتاج إلى جرأة فى الاعتراف بأن أزمة التمويل لا تقل خطراً عن أى تهديد فكرى أو سياسى، فالإبداع لا يولد فى العوز، والاستقلال لا يصان فى ظل الحاجة. نحتاج إلى استراتيجية شاملة تعيد تعريف العلاقة بين الإعلام والدولة والسوق.. يجب دعم المؤسسات الجادة بإعفاءات مدروسة، وتشجيع الاستثمار المحلى فى الصحف والقنوات.. ووضع حد أدنى عادل لأجور الصحفيين والإعلاميين، وفوق كل هذا لابد من تحديد واضح لوظيفة الإعلام ومحتوى الرسالة وطبيعة المستقبل .