على امتداد الشاطئ، تجد «الصياد الواقف» كما يسميه أهل الإسكندرية، بثيابه المُبللة ووجهه الذى خطته الشمس والملح، يدخل البحر خطوة بخطوة حتى يصل إلى العمق المناسب، يحمل على كتفه شبكة «الرحى» الدائرية، خفيفة فى يده وثقيلة فى معانيها، يرفعها عاليًا، ثم يرميها فى الهواء لتفتح كزهرة بيضاء فوق صفحة الماء، قبل أن تهبط بثقل الرصاص المربوط بأطرافها لتغلق على رزقه. لا يملك الصياد مركبًا ولا محركًا، فقط يملك قدميه اللتين تعرفان طريق الموج، وذراعيه اللتين تحفظان حركة الرمى كرقصة قديمة موروثة من الأجداد، يقضى يومه كله ذهابًا وإيابًا داخل البحر، يخرج بالشبكة مُحَمَّلة أحيانًا، وأحيانًا خالية، لكنه لا يتوقف. يقول السيد سعد، أحد الصيادين الذين يمتهنون هذه المهنة منذ أكثر من 20 عامًا: «ورثت الصيد هذا من أبي، والذى ورثه عن جدي، كنا ندخل البحر قبل الشروق، نرمى الرحى عشرات المرات، يمكن الشبكة تعود لنا بوجبة يوم، ويمكن تعود خالية، ولكن لا نستطيع أن نفعل غير هذا، فالبحر رزقنا الوحيد. ويضيف وهو يعلق الشبكة على كتفه: «الموضوع مُتعب جدا، نحن نقف فى المياه بالساعات، فى البرد والحر، والموج يرتطم فى أجسادنا كأنه يختبر صبرنا، والبحر يعرفنا جيدًا كما نعرفه، ويعرف أنه لو مرض واحد منا فلن يكون له مصدر دخل، فلا معاش ولا راتب ولا تأمين لنا، نحن نسعى على رزقنا على باب الله، حتى يأتى جيل بعدنا يتسلم الراية ويتولى المسئولية». وعن صعوبة المهنة، يقول سعد: الرحى محتاجة ذراعًا قوية ونفسًا طويلًا، أسحبها بيدى والرصاص يسحبك للأسفل، أحيانًا الشبكة تعلق فى حجر، أو فى عشب أو فى طحالب، وأحيانًا تعود بسمك قليل لا يسد مصاريف اليوم، ولكن نرضى لأن البحر دائمًا يعوضنا. بينما يضيف زميله عم رمضان، وهو يجلس على الشاطئ يصلح خيوط الشبكة: نحن صيادى الرحى لا نملك رفاهية القوارب، كل واحد فينا رزقه بقدمه، ندخل البحر حفاةً كأننا نرجع لرحم أمنا الأولى البحر ومن يعود بشبكة مليئة يشكر الله، ومن يعود بشبكة فارغة يسأل الله الزيادة. وبعد رحلات طويلة ذهابًا وإيابًا، منذ الفجر وساعات الصباح الأولى يوميًا حتى الظهر، يتجمع المواطنون على الشواطئ التى يقف عليها الصيادون، ويبدأون بشراء ما استطاعوا جمعه طيلة النهار، ومنهم مَن يشترى بالكيلو، ومنهم مَن يشترى بالطاولة، ومنهم مَن يشترى بالشبكة. وتتميز أسماك الصيد بالرحى بأنها تكون طازجة، لم يتم تجميدها أو تبريدها، من البحر للمستهلك مباشرة، وقد يرتفع سعرها أحيانًا، خاصة أن الصيادين لا يبيعون نوعًا واحدًا فى المرة، فكل صياد على حسب ما جاد به البحر له فى كل شبكة، ومع كل غروب، يعود الرجال بخطوات بطيئة، تحملها الرياح المُبللة برائحة الملح، يلقون نظرة أخيرة على البحر قبل أن يغادروا، كمَن يودع صديقًا على وعد بلقاء جديد فى الصباح.