تذكرني الأحداث الجارية في السودان الشقيق والتي تشهد تصاعداً دموياً غير مسبوق بمنطقة الفاشر شمال دارفور بكواليس الحوار الذي أجريته مع الرئيس السوداني السابق عمر البشير في مارس من العام 2008 بصحيفة الخليج الإماراتية خلال زيارته لدولة الإمارات العربية المتحدة. وأثناء استعدادي لتغطية المؤتمر الصحفي الذي تم تنظيمه للبشير تمنيت الانفراد به حتى أتمكن من مواجهته بالعديد من الأسئلة التي كانت تبحث عن إجابات في ذلك الوقت، خصوصاً مع تزامن اندلاع الصراع في دارفور، إلا أن الحصار الأمني الذي كان مفروضا عليه جعلني أفقد الأمل، لأفاجأ بوجود الكاتبة الصحفية السودانية عايدة عبد الحميد التي كانت تزاملني بصحيفة الخليج آنذاك والتي شعرت برغبتي في إجراء حوار مع الرئيس عمر البشير بعدما تحدثنا عن أهمية الزيارة وما يدور في السودان ، لتطلب مني صياغة الأسئلة وانتظارها قليلاً. وبعد لحظات عادت بصحبة المستشار الإعلامي للبشير والذي طلب مني بعد التعرف عليه نسخة من الأسئلة ومرافقته بعد انتهاء المؤتمر الصحفي مباشرة لأجد نفسي في صحبة الرئيس متجهين لجناح إقامته ومعنا الزميلة عايدة عبد الحميد التي لولاها لما تمكنت من اجراء الحوار أصلا. وفور لقائي بالبشير عن قرب انهارت الصورة التي رسمتها في ذهني لرئيس دولة بحجم السودان، إذ فوجئت برجل بسيط ومحدود الثقافة والمعرفة، فضلا عن عدم قدرته على إدارة الحوار بمفرده لذلك كان دائم النظر لمرافقيه و كأنه يطلب منهم الدعم ومع خضم الحوار بدأ يتلعثم في إجاباته ليتدخل حينها مستشاره الإعلامي الذي حرص علي تجاذب أطراف الحديث ومساعدته في استكمال إجاباته. الغريب أنه حرص على توجيه اتهام مباشر للغرب بشكل عام والولاياتالمتحدة بشكل خاص كطامعين في ثروات السودان رغم اعترافه اثناء الحوار بأنه يسعى لتحسين العلاقات مع الولاياتالمتحدة وأنه ارسل وفدا رفيع المستوى من الخارجية السودانية إلى واشنطن للقيام بتلك المهمة. ومن واشنطن انتقل إلى دارفور التي وصف ما يجري بها آنذاك بأنه مشكلة مفتعلة بدأت مع اكتشاف البترول واليورانيوم، مؤكداً أن الغرب يطمع في كل برميل نفط للسيطرة على العالم وهو ما يتم تأكيده حالياً ولكن مع تعدد وتنوع أطراف الصراع. ودلل البشير أثناء الحوار على صدق حديثه بأن ما يحدث في السودان هو نفس السيناريو الذي حدث في العراق حيث أشعلت أمريكا الحرب بذريعة وجود أسلحة نووية بالعراق لتنتهي بفرض سيطرتها على النفط العراقي ليتأكد بعد ذلك للعالم كذب ادعاءاتها. وردا على سؤاله حول مخاوفه من تقسيم السودان كما حدث في العراق أكد أن الوضع في السودان يختلف كثيراً عن العراق، فالمصالح الأمريكية اقتضت تقسيم العراق بعدما نجحت في إثارة النعرات المذهبية لأن العراق تحت السيطرة العسكرية الأمريكية بالكامل ولكن السودان ينعم بهامش كبير من التفاهمات الداخلية ، مشددا على أن القوى السودانية المختلفة تستطيع التوصل إلى صيغ وطنية تقطع الطريق على كل أشكال التدخلات الخارجية. ورغم علمه بحقيقة الموقف إلا أن البشير كان حريصاً على تجميل الصورة داخل السودان وعدم الاعتراف بتهديدات القوى الخارجية والسلفية الجديدة التي فرضت نفسها على مفاصل حكمه آنذاك وما يصاحبها من أزمة دارفور التي أسهمت في تفاقم حجم الأزمة الداخلية، إذ بادرني ردا على سؤالي عن تهديدات السلفية الجديدة بقوله : لا أعرف ماذا تعني بالسلفية الجديدة وكأنه يتهرب من الإجابة، لينتقل سريعا إلى أزمة دارفور التي وصفها مجدداً بالمفتعلة. وبسؤاله عن تأثر العملية السياسية في السودان بالاضطرابات الداخلية أكثر أم بالضغوطات الخارجية ، نفى البشير وجود أي إضطرابات سياسية في السودان وكأنه يخبئ الجمر تحت الرماد، لافتا إلى أن منابر المعارضة بالسودان المتمثلة في الصحف ومنظمات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة أكثر بكثير من منابر المؤتمر الوطني التابع للنظام آنذاك، ووصف الضغوط الخارجية بأنها توحد السودان وتجعل المعارضة أقرب للحكومة. وللأسف الشديد فهو لم يدرك أن الفكر السلفي والإخواني الذي سيطر على نظام حكمه كان طريقا ممهداً لتحقيق ما تشهده السودان حالياً، لذلك علينا ان نعي جيداً أن المحافظة على الأوطان وقوتها تتطلب تلاحم القوى الوطنية، خصوصاً وأن قوى الشر تتحين الفرصة للوصول بنا لما نراه من حولنا. * رئيس تحرير صحيفة الديار المصرية