فى السياسة، كما فى الجغرافيا، لا توجد فراغات.. حين تنهار دولة، أو تتصدع أخرى، هناك دائمًا من يسارع لملء الفراغ، إما بالوصاية أو بالوساطة أو بالسلاح، اليوم فى لحظة متزامنة غريبة، تتحرك ثلاث خرائط عربية (غزة، ليبيا، السودان) كل منها تحمل ملامح أزمة قديمة، لكنّها فى الحقيقة تشترك فى معادلة واحدة: من يدير الشرق الأوسط بعد الفوضى؟ العالم اليوم يتعامل مع الشرق الأوسط كمنطقة يجب "إدارتها"، لا فهمها، لكن مصر بخبرتها التاريخية وثقلها السياسى تتعامل معها كمنطقة يجب استعادتها، لا إدارتها، ما بين مشروع «قوة إدارة غزة» فى مجلس الأمن، والاجتماع الثلاثى لدول جوار ليبيا، والتهدئة الصامتة فى السودان، تتضح معادلة جديدة: المنطقة بدأت تُدرك أن الاستقرار ليس قرارًا يُتخذ فى نيويورك، بل مسئولية يمكن أن تتشارك فى صياغتها دول المنطقة وتتخذ قراراتها فى القاهرة. هذا الافتراض أو التصور أو لنقل دون مبالغة الواقع ليس ترفًا دبلوماسيًا، بل ضرورة وجودية؛ لأن الشرق الأوسط الذى لا يُدار من الداخل سيُعاد تشكيله من الخارج، ومصر بخطوات محسوبة وبصبر استراتيجى، تبدو اليوم كما كانت دائمًا دولة الحافة التى تمنع السقوط. التحول فى مفهوم النفوذ المصرى النفوذ لم يعد يُقاس بعدد الجنود أو بحدود القوة العسكرية وإن كنا نملكها ونعظم من قدراتها، النفوذ الجديد هو القدرة على إدارة التوازنات دون أن تنكسر وفى هذا الإطار، تبدو مصر وكأنها انتقلت من مرحلة «إدارة الأزمات» إلى مرحلة «هندسة الإقليم»: ترسم حدود الممكن، وتضع خطوطًا حمراء تحترمها القوى الكبرى ولو صمتًا: حين تتحدث مصر عن غزة، يسمع الجميع، وحين تجتمع مع جيرانها فى ليبيا، تتغير حسابات القوى الكبرى، وحين تطرح رؤيتها فى السودان، يتباطأ الانهيار. هذا النفوذ لا يحتاج إلى شعارات، بل إلى رصيد استقرار تراكم عبر سنوات من الصبر، والدبلوماسية الهادئة التى تضع مصلحة الإقليم فوق منطق المناورات. أولًا: غزة... حين يتحول الأمن إلى سلعة تفاوض فى نيويورك، يناقش مجلس الأمن مشروعًا أمريكيًا لإنشاء ما سُمّى ب«قوة إدارة غزة» بعد الهدنة على الورق تبدو المبادرة إنسانية، هدفها «ضمان الاستقرار وحماية المدنيين»، لكن فى العمق، هى معركة مبكرة على من يدير ما بعد الحرب. الإدارة الأمريكية تريد سلطة تنفيذية متعددة الجنسيات، تموّل وتراقب وتعيد الإعمار، لكنها لا تريد أن تعيد السلطة الفلسطينية فعليًا إلى المشهد، ولا أن تمنح حماس شرعية سياسية، ولا أن تُفقد إسرائيل السيطرة الأمنية الكاملة بمعنى آخر، القوة المقترحة ليست لإدارة غزة بل لإدارة «الفراغ السياسى» فيها، هذا الفراغ الذى صنعته الحرب عمدًا، والآن يُراد أن يُملأ بترتيب دولى مؤقت لا يملك جذورًا على الأرض. لكن هنا تتدخل القاهرة، لا لتقول «لا» فقط، بل لتقدّم بديلًا واقعيًا: أن يكون الحل فلسطينيًا–عربيًا، بشرعية أممية قبل أن تكون أمريكية، مصر ترى أن استقرار غزة لن يتحقق بقوات تحت علم الأممالمتحدة، بل بإعادة الشرعية السياسية للشعب الفلسطينى نفسه، وفتح مسار تسوية حقيقية تُنهى الاحتلال لا تُديره، هى إذن ليست معركة على السلطة، بل على المعنى: هل الأمن مشروع وطنى أم سلعة قابلة للتأجير؟ ثانيًا: ليبيا... الحافة التى تعلّم الإقليم معنى السيادة فى الجنوب الغربى من الخريطة، اجتمع وزراء خارجية مصر وتونس والجزائر فى لقاء ثلاثى جديد، بدا وكأنه عودة هادئة إلى واحد من أكثر الملفات التى حُشرت عمدًا فى الزاوية: الملف الليبى. لم يكن الاجتماع مجرد تنسيق حدودى، بل إعادة تذكير للعالم بأن ليبيا لا يمكن أن تُدار بالوكالة، وأن أمنها لا يتجزأ عن أمن جوارها، فى السنوات الماضية، تحولت ليبيا إلى مختبر للفوضى المنظمة: قوات دولية بالوكالة، مرتزقة، ميليشيات، انقسام مؤسسى، تدخلات إقليمية وروسية وإيطالية وفرنسية. لكن فى المقابل، بدأت القاهرة ومعها دول الجوار تبلور معادلة مختلفة: أن الحل الليبى لا يُستورد من العواصم، بل يُكتب فى خيام المصالحة الليبية – الليبية لهذا، بدا اللقاء الثلاثى المصرى، الجزائرى، التونسى محاولة جادة لإعادة بناء جدار السيادة العربية فى وجه تغوّل القوى الأجنبية فكما ترفض مصر أن تكون غزة تحت وصاية أمنية دولية، ترفض أيضًا أن تتحول ليبيا إلى «ملف إدارى» على مكاتب الأممالمتحدة أو البنتاجون، والرسالة الأعمق هنا: أن مصر ليست دولة تستهلك نتائج الفوضى، بل تحاول تفكيكها من الداخل. ثالثًا: السودان... اختبار الصبر فى زمن اللا دولة أما فى الجنوب، فى السودان، فتسير التهدئة كمن يمشى على خيط فوق نار. لا أحد يملك نصرًا كاملًا، ولا أحد يستطيع إعلان هزيمة. ومع ذلك، فإن ما يجرى هناك هو أخطر ما يمكن أن يواجه المنطقة: تفكك دولة بحجم قارة، على حدود مصر وإثيوبيا والبحر الأحمر هنا تتحرك القاهرة بمنطق مختلف: لا صخب، لا وساطات استعراضية، بل سياسة النفس الطويل، تعرف أن النزاع فى السودان ليس مجرد معركة عسكرية، بل صراع على الهوية والدولة والجيش، وتعرف أن انهيار السودان يعنى فتح بوابة جديدة للفوضى العابرة للحدود من تهريب السلاح إلى موجات النزوح. ولهذا كان التحرك المصرى حذرًا ودقيقًا: الحفاظ على الدولة السودانية ككيان، أيًّا كان شكل السلطة القادمة فى زمن تهاوى الحدود، كان الموقف المصرى بمثابة استراتيجية احتواء لا مواجهة: أن تبقى الحريق تحت السيطرة حتى لا يتحول إلى رماد يطير شمالًا. حرب باردة مصغرة ما يجرى اليوم ليس فقط صراعًا عربيًا–عربيًا أو إقليميًا محدودًا، بل حرب باردة مصغرة داخل الإقليم نفسه. الولاياتالمتحدة تحاول استعادة موقعها عبر ملفات غزة والسودان، بينما تمد موسكو خيوطها فى ليبيا، وتزاحمها الصين بهدوء فى الاقتصاد والبنية التحتية. أما أوروبا، فهى تراقب الميدان بعين مرتعشة، تخشى موجات لجوء جديدة أكثر مما تهتم بالحلول السياسية. وسط هذه اللوحة المعقدة، تحاول القاهرة إعادة تعريف دورها ك «مركز ثقل» لا كلاعب ثانوى. نجاحها فى ضبط الإيقاع بين هذه القوى دون أن تقع فى فخّ التحالفات الصلبة هو ما يجعلها حاليًا اللاعب الأكثر توازنًا فى الإقليم فمصر لا تصطف مع محور ضد آخر، لكنها تمارس سياسة الحضور المستقل، وهى العملة النادرة فى منطقة تُدار غالبًا بالولاءات لا بالمصالح.