في قلب الجيزة، وعلى بُعد أمتار من أهرامات مصر الخالدة، يقف المتحف المصري الكبير كأضخم صرح حضاري وثقافي في القرن الحادي والعشرين، ليجسد رؤية الدولة المصرية في الحفاظ على إرثها التاريخي، وإحياء روح الحضارة التي أبهرت العالم منذ آلاف السنين. فعلى مدار عشر سنوات من العمل الدؤوب والتخطيط العلمي والهندسي، تحوّل الحلم إلى واقع ملموس يليق بعظمة مصر، لتصبح واجهتها الحضارية الحديثة أمام العالم أجمع. وفي جولة خاصة ل«بوابة أخبار اليوم»، فتح الدكتور عيسى زيدان، المدير التنفيذي لنقل وترميم الآثار بالمتحف المصري الكبير، والدكتورة منة الله طاهر، منسقة العلاقات الدولية بالمتحف، أبواب الصرح العظيم، ليكشفا عن تفاصيله المعمارية والفنية وأسرار مقتنياته التي تروي فصولاً من تاريخ الإنسانية. ◄ من فكرة إلى صرح عالمي منذ إطلاق فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير عام 2002، كانت الرؤية واضحة: بناء متحف يليق بمكانة مصر التاريخية ويجمع بين التراث والتكنولوجيا الحديثة. وبدأت الدولة تنفيذ المشروع فعليًا عام 2012 ضمن خطة قومية لتطوير المناطق الأثرية، واستمر العمل حتى أصبح اليوم أكبر متحف أثري في العالم من حيث المساحة وعدد القطع المعروضة. يقول الدكتور عيسى زيدان ل«بوابة أخبار اليوم» أن المتحف المصري الكبير ليس مجرد مكان لعرض الآثار، بل مشروع قومي متكامل يعكس هوية مصر الثقافية ويُعد رسالة سلام من المصريين إلى العالم، تؤكد أننا نحافظ على تاريخنا ونقدمه للأجيال القادمة بصورة تليق بعظمة أجدادنا". ◄ المدخل المهيب ومسلة رمسيس المعلقة تبدأ رحلة الزائر من البوابة الرئيسية المطلة على طريق القاهرةالإسكندرية الصحراوي، حيث يطل عليه ميدان المسلة بمساحة 27 ألف متر مربع، وفي وسط الساحة تتربع مسلة الملك رمسيس الثاني، وهي أول مسلة معلقة في التاريخ. ويروي الدكتور عيسى زيدان تفاصيل تصميمها قائلًا: بعد دراسة فنية دقيقة، قررنا عرض المسلة بشكل مبتكر يتيح للزائر مشاهدة خرطوش الملك رمسيس الثاني أسفلها للمرة الأولى منذ أكثر من 3500 عام، وقد تم تصميم قاعدة ضخمة تزن 300 طن لضمان ثباتها عبر الزمن، مع تنفيذ خندق عازل أسفلها لحمايتها من الزلازل والعوامل البيئية . المسلة المعلقة أصبحت أول ما يراه الزائر، لتكون تحفة فنية تؤكد عبقرية المصري القديم في النحت، وإبداع المصري الحديث في العرض والحفاظ على التراث. ◄ واجهة المتحف.. أيقونة معمارية بروح مصرية يمتد المتحف على مساحة 117 فدانًا، وتبلغ واجهته 600 متر عرضًا و45 مترًا ارتفاعًا، وقد صُممت الواجهة بخامات مصرية بالكامل، أبرزها الرخام السيناوي، وتم تزيينها بخراطيش ملوك مصر القديمة التي ترحب بالزوار بلغات مختلفة، لتؤكد أن مصر مهد الحضارة ما زالت تفتح ذراعيها للعالم. اقرأ أيضا| أنظار العالم تتوجه إلى مصر.. الصحافة الدولية تحتفي بالمتحف الكبير قبل افتتاحه ويضيف الدكتور زيدان: أردنا أن تكون كل تفاصيل المتحف رسالة من الماضي إلى الحاضر، حتى في اختيار الخامات، اعتمدنا على الرخام المصري والمعادن المحلية، ليظل المتحف شاهدًا على قدرة المصريين على صناعة مجدهم بأيديهم. ◄ بهو رمسيس العظيم.. أول المستقبلين داخل البهو العظيم، الذي تبلغ مساحته 8000 متر مربع، يقف تمثال الملك رمسيس الثاني شامخًا، مصنوعًا من الجرانيت الوردي، وقد تم نقله في عملية هندسية معقدة عام 2018 من ميدان رمسيس إلى موقعه الحالي، ليصبح أول من يستقبل الزوار داخل الصرح. وحول سر وضع تماثيل أخرى بجواره، يوضح زيدان، أن البهو كان واسعًا جدًا، فقررنا إضافة مجموعة من القطع الأثرية المهمة إلى جوار الملك رمسيس، منها عمود النصر للملك مرنبتاح، وتمثالان لملك وملكة من العصر البطلمي، ليشعر الزائر بعظمة الملوك المصريين منذ لحظة دخوله. ◄ الدرج العظيم.. رحلة صعود عبر التاريخ أحد أبرز ملامح المتحف هو الدرج العظيم، الذي يعرض ما يقرب من 72 قطعة أثرية ضخمة تمثل ملوك ومعبودات مصر القديمة، ضمن أربعة موضوعات رئيسية: 1- الهيئة الملكية وتطور الفن الملكي 2- الدور المقدسة والمعابد 3- الملوك والمعبودات 4- الرحلة إلى الحياة الأبدية ويؤكد الدكتور عيسى زيدان أن الدرج صُمم ليكون تجربة بصرية وروحية فريدة، قائلاً: "أردنا للزائر أن يعيش رحلة صعود تشبه رحلة الروح المصرية نحو الخلود، يبدأ من الأرض، بين الملوك، ويصعد تدريجيًا حتى يرى الأهرامات في نهاية المسار، في مشهد يجسد فلسفة البعث والحياة الأبدية في الحضارة المصرية القديمة". وفي نهاية الدرج، تُطل نافذة بانورامية ضخمة تُظهر الأهرامات الثلاثة، وكأنها جزء من المتحف نفسه. ◄ كنوز الملك الذهبي توت عنخ آمون يُعد جناح الملك توت عنخ آمون من أكثر الأقسام إثارة داخل المتحف، إذ تُعرض جميع مقتنياته البالغ عددها 5398 قطعة كاملة لأول مرة على مساحة 7000 متر مربع. يقول الدكتور زيدان: "في المتحف القديم بالتحرير كنا نعرض فقط نحو 2000 قطعة من مقتنيات توت عنخ آمون، أما هنا فسيتمكن الزوار من مشاهدة كل ما اكتُشف داخل مقبرته كما وُجد عام 1922، بتسلسل عرض متحفي يحكي قصة الملك الطفل من ميلاده حتى وفاته". ويضم الجناح مقتنيات نادرة، أبرزها العرش الذهبي، والأقنعة الملكية، والعجلات الحربية، والمجوهرات، وصناديق التوابيت المزخرفة. ◄ متحف مراكب خوفو.. إنجاز أثري وهندسي غير مسبوق ضمن المشروع، تم إنشاء متحف خاص لعرض مركبي الملك خوفو، وهما من أهم الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين، وقد استغرقت عملية نقل المركب الأول من منطقة الأهرامات إلى المتحف أكثر من 30 شهرًا من العمل الدقيق. ويكشف الدكتور زيدان عن تفاصيل العملية: نُفذت عملية النقل باستخدام عربة ذكية تم استقدامها من بلجيكا خصيصًا، وتم نقل المركب بالكامل كقطعة واحدة داخل هيكل معدني ضخم للحماية، واستغرقت الرحلة 48 ساعة كاملة حتى استقرت المركب داخل مبنى العرض الجديد . أما المركب الثاني، فقد تم رفع جميع أجزائه وترميمها وجارٍ تجميعها داخل قاعة عرض فريدة ستُفتح للجمهور قريبًا. ◄ التكنولوجيا في خدمة الحضارة اعتمد المتحف على أحدث تقنيات العرض التفاعلي والإضاءة الذكية، إلى جانب أنظمة الواقع الافتراضي التي تتيح للزائر تجربة فريدة تُعيد إحياء مشاهد من الحياة المصرية القديمة. ويشير زيدان إلى أن كل قطعة داخل المتحف موثقة رقميًا ضمن قاعدة بيانات متكاملة تربطها بالمجلس الأعلى للآثار، لضمان الحفظ العلمي المستدام. ◄ متحف لكل الزوار.. تجربة إنسانية متكاملة من جانبه، تؤكد الدكتورة منة الله طاهر، منسقة العلاقات الدولية بالمتحف الكبير، في تصريحاتها ل«بوابة أخبار اليوم»: "المتحف المصري الكبير ليس فقط للباحثين أو المهتمين بالآثار، بل هو متحف لكل الفئات العمرية ولكل الزوار من مختلف الثقافات، لذلك خصصنا برامج تعليمية وثقافية للأطفال وذوي القدرات الخاصة، ليكون المتحف مساحة تفاعلية للتعلم والاستكشاف". وتضيف الدكتورة منة الله طاهر: أنشأنا قسمًا مخصصًا للأطفال تحت مسمى (متحف الطفل)، يقدم ورش عمل وأنشطة تعليمية تحاكي الحياة اليومية للمصري القديم، باستخدام أدوات مبسطة ووسائط تفاعلية، كما تم تجهيز المتحف بالكامل لتيسير حركة ذوي الهمم وكبار السن عبر مصاعد وسلالم كهربائية وممرات خاصة. ◄ الربط السياحي والتكامل مع المنطقة الأثرية ولتسهيل وصول الزوار، تم إنشاء ممشى سياحي بطول 2 كيلومتر يربط المتحف بالأهرامات الثلاثة، مع خطة لتشغيل «تليفريك» يمر بعشر محطات، إضافة إلى قرب المتحف من مطار سفنكس الدولي الذي يبعد 7 كيلومترات فقط. كما شملت أعمال التطوير شبكة طرق ومحاور جديدة، منها تطوير طريق الفيوم ومحور المنصورية بالكامل، بما يضمن وصولًا سلسًا للموقع الذي يُعد أحد أهم المقاصد السياحية المستقبلية في العالم. ◄ المتحف كمركز علمي عالمي لم يقتصر المشروع على كونه متحفًا للعرض، بل يشمل مركزًا علميًا عالميًا للترميم والبحث الأثري، يضم معامل متخصصة في تحليل المواد الأثرية، وإعادة ترميم القطع الدقيقة باستخدام أحدث التقنيات. ويشير الدكتور عيسى زيدان إلى أن مركز الترميم بالمتحف يُعد من الأكبر في الشرق الأوسط، قائلاً: لدينا 19 معملًا متخصصًا في صيانة الآثار، منها معامل للبردي والخشب والمعادن والمنسوجات، وجميعها مجهزة بتقنيات متقدمة، كما نستقبل بعثات علمية من دول عدة للتدريب وتبادل الخبرات . ◄ واجهة مصر الحضارية الحديثة تُعد تجربة المتحف المصري الكبير نموذجًا يُحتذى به في كيفية استثمار التراث الثقافي لخدمة التنمية السياحية والاقتصادية. وتوضح الدكتورة منة الله طاهر أن المتحف جزء من رؤية مصر 2030، قائلة: هدفنا ليس فقط عرض التاريخ، بل توظيفه كأداة للتنمية المستدامة، فالمتحف سيوفر آلاف فرص العمل، ويعزز موقع مصر على خريطة السياحة الثقافية العالمية. ◄ الافتتاح المنتظر.. حدث عالمي تستعد مصر للافتتاح المتحف المصري الكبير قريبًا، وسط ترقب دولي واسع. ويختم الدكتور عيسى زيدان حديثه قائلاً: "هذا المشروع هو فخر لكل مصري، نعد الشعب المصري والعالم كله بأن يشاهدوا متحفًا يليق بعظمة أجدادنا ويُظهر وجه مصر المشرق أمام العالم، إنه ليس فقط متحفًا، بل حلم تحقق ليصبح جسرًا بين الماضي والمستقبل . المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى ضخم يحتضن كنوزًا أثرية، بل هو مشروع وطني وروحي يروي قصة حضارة عمرها سبعة آلاف عام. بين جدرانه يلتقي الزمن، وتُروى الحكايات، ويستمر المصريون بأيدي علمائهم وخبرائهم في كتابة فصول جديدة من مجدٍ لا ينتهي، إنه باختصار، هدية مصر للعالم.. وذاكرة الإنسانية التي لا تُمحى.