بشكل ما تؤهب المدن زائرها لما هو مقبل عليه قبل أن تستقبله قد لا تبدو هذه الجملة في عصرنا سوى بلاغة لكنها مع ذلك تتحقق من آن لآخر خاصة مع المدن التي تحافظ على روحها القديمة حية. ذكرتني مدينة وجدة بهذه القاعدة بينما كنت في طريقي إليها لحضور فعاليات الدورة الخامسة لمعرضها للكتاب كان علَّي الانتظار في صالة صغيرة للرحلات الداخلية في مطار الدار البيضاء لمدة قاربت على تسع ساعات، استبعدت فكرة الخروج إلى العاصمة مفضلًا قضاء الوقت مع بضعة أشخاص لم يزيدوا عن العشرة حتى قبل موعد الرحلة المرتقبة بساعة تقريبًا، حيث امتلأت الصالة عن آخرها بالمسافرين. يتنقل العدد القليل من المتواجدين ما بين كراسي الانتظار، وركن الصلاة، والحمام، والبوفيه، ومنضدة عمل تتسع لستة أشخاص، بقيت عليها لساعتين بجانب امرأة تبدو كمعلمة لديها الكثير من العمل تتنقل فيه بين "لابتوب" وكراسة. عمليًا لم يكن في صالة الرحلات الداخلية، في البداية، سواي وراكبان أو ثلاثة والبقية من الموظفين: امرأة البوفيه الضجرة، وفتاتان من أمن المطار قضيتا وقتا لا بأس به تتبادلان حديثًا ضاحكًا، وامرأتان تعملان في النظافة، ورجل أمن يأتي للصلاة وفي الانتظار الطويل بجوارهم وفي أسر هدوء لا يليق بمطار كنت أتأهب للدخول في زمن وجدة الخاص والمتمهل. كثيرون ممن التقيت بهم أجمعوا أنه لا يمكن تكوين صورة دقيقة عن المغرب من خلال مدينة وجدة فقط، يلزم رؤية مناطق ومدن أخرى، مثلًا: فاس ومراكش والدار البيضاء ومع أن ما يقولون يصلح ليكون قاعدة يمكن تطبيقها على أي بلد، لكن وجدة في كل الأحوال تبدو حالة استثنائية بسبب طبيعتها الجبلية وتشاركها الحدود مع الجزائر، قرب له تأثيره سلبًا وإيجابيًا، شرح لنا شاعر شاب من المدينة أنه بسبب توتر العلاقات مؤخرًا فإنه لم يعد ثمة تبادل تجاري وأن هذا يترك تأثيرًا سلبيًا على الطرفين. سنمر في اليوم الأخير للرحلة وبعدما انتهى النشاط الثقافي وامتلكنا حرية التجول، على جبل نعرف أن الحدود خلفه، قرب ذلك الجبل رأينا صورة أخرى للمدينة تبدو أكثر ثراء وعصرية مقارنة بالمدينة القديمة التي ندلف إليها من بوابة تراثية تشرف على حديقة يجلس فيها الكثير من الأفارقة، وتخفي وراءها عالمًا مغايرًا نستكشف فيه أسواقًا داخل حارات موزعة على التخصصات المختلفة: الجزارة والتوابل والملابس والمنتجات الجلدية، مقاهٍ شعبية ومطاعم للأكل المغربي المطبوخ بالكثير من التوابل أو العطور كما في اللهجة المحلية، وهي كلمة تصف واقع الطعام التقليدي المغربي المميز بالروائح العطرية. يمكن القطع بأنها بلدة هادئة ومحافظة، لكنها تسعى جديًا للتمرد على طبيعتها من خلال أنشطة ثقافية وفنية مختلفة، لديها مهرجان للسينما، إضافة إلى نشاطها هذا الذي كنت ضيفًا ومشاركًا في فعالياته (الدورة الخامسة للمعرض المغاربي للكتاب من (7 إلى 12 أكتوبر) والذي أقيم تحت شعار «أن نقيم في العالم ونكتبه». بحسب الأرقام الرسمية فقد شهد المعرض مشاركة 26 دار نشر من المغرب والخارج، و17 مؤسسة وطنية وجهوية الجهوية: نظام تنظيمي وإداري يعتمد على تقسيم التراب الوطني إلى جهات (مناطق جغرافية وإدارية)، بهدف تحقيق اللامركزية لدواعي تطوير التنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية. تضع المغرب الثقافة كأحد الأطر الأساسية لقيادة عمليات التنمية والتطوير، ولهذا سنسمع من ضمن كلمات حفل الافتتاح ما يؤكد على «الدور المحوري الذي تضطلع به الثقافة في دعم الاقتصاد المحلي وتعزيز الإشعاع الحضاري للمجالات الترابية (الوطنية)» على لسان خطيب الهبيل والي جهة الشرق وهي الجهة التي تتبعها مدينة وجدة. وفق هذا المفهوم فإن المعرض يقام بمبادرة من جهات عدة «وكالة تنمية جهة الشرق، بشراكة مع وزارة الشباب والثقافة والتواصل، وولاية جهة الشرق، ومجلس الجهة، وجامعة محمد الأول، وكذا مؤسسات عمومية أخرى» ولهذا أيضًا سنلاحظ على مدى أيام المعرض حضورًا رسميًا فاعلًا ومتداخلًا مع الأنشطة. الأرقام الرسمية تقول إن عدد زوار المعرض وصلوا إلى 60 ألفا توزعوا على 4 آلاف متر وعلى أوقات مختلفة من اليوم، من الصباح إلى العصر جمهور الندوات إلى جانب الأطفال الذين يأتون في باصات إلى «فضاء الأطفال» وهي مساحة مخصصة لهم تمد قاعات المعرض كلها بما يكفيه من بهجة ومن بعد الثالثة عصرًا يزور المعرض جمهور آخر من طلبة وموظفين انتهى دوامهم. وباعتباره نشاطًا تنمويًا فإن المعرض يمد نشاطه إلى خارج أجنحته فتتصل برامجه إلى رحاب مؤسسات جامعية ومدرسية وكذلك المؤسسة السجنية المحلية التي أقيمت فيها كما علمت مناقشة لكتاب سجين، وعلى هامشه أيضًا أقيم معرض تشكيلي لفناني جهة الشرق بمساهمة طلبة مدرسة الفنون الجميلة بوجدة. وطموح المعرض يتسع لما هو أبعد من المحلي حيث يسعى من خلال أنشطته إلى التأثير في الفضاء المغربي والأورو- متوسطي من خلال أكثر من 150 مشاركا من مختلف الجنسيات العربية، وعدد من البلدان الأوروبية، وهم نخبة من الكتاب والباحثين والروائيين والفلاسفة والفنانين والشعراء من المغرب ومن بلدان إفريقية وعربية وأوروبية وأمريكا وكندا، وقد تمكنت وجدة عبر هذه الدورة من جمع طيف واسع من الأسماء الحاضرة في المشهد الثقافي بمجالاته المختلفة، حيث انخرط المشاركون عبر 18 مائدة مستديرة (8 بالعربية و10 بالفرنسية) في حوارات حيوية حول عناوين من بينها: الشعر في الزمن الرقمي، القارئ في الزمن الرقمي، الترجمة الذكاء الاصطناعي، موجة الرواية، راهن الإعلام الثقافي، البحث عن الناقد. فلسطين أفقاً للفكر والإبداع. ومن المزايا التي ضمنها هدوء وجدة لضيوفها، اتصال الحوارات إلى خارج القاعات في انفتاح حقيقي بين المراكز الثقافية وبتجاور وتمازج اللغتين الفرنسية والعربية وبتعدد لهجات العربية ما بين المغربي والمصري واللبناني والسوري والسوداني، وكأن وجدة بصورة عملية تنبه إلى الثراء الذي يمكن للثقافة العربية الإفادة منه إن تجاوزت عن الخلافات الشكلية وتركز عملها على الانشغالات الجوهرية.