لم تعرف محافظة الإسماعيلية منذ سنوات طويلة جريمة بهذا القدر من البشاعة والغرابة، جريمة تخطّت حدود الخيال، وخلّفت وراءها وجعًا اجتماعيًا ونفسيًا ما زال صداه يتردّد في بيوت المصريين، بعدما تجرّد طفل في الثالثة عشرة من عمره من إنسانيته، ليقتل صديقه البالغ من العمر 12 عامًا، ثم يقطّع جثمانه إلى أشلاء بمنشار كهربائي، متأثرًا بمسلسل أجنبي شاهده عبر الإنترنت، في واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبها حدث صغير في تاريخ المحافظة الهادئة. كانت البداية مع بلاغ تلقّاه مدير أمن الإسماعيلية من الأهالي يفيد بالعثور على أكياس سوداء بالقرب من أحد المولات الشهيرة بمنطقة المحطة الجديدة، تنبعث منها رائحة كريهة وتحتوي على أجزاء من جسد بشري. انتقلت على الفور قوات المباحث بقيادة اللواء أحمد عليان، مدير المباحث الجنائية، والعقيد مصطفى عرفة، رئيس مباحث المديرية، إلى موقع الحادث، حيث فرض كردون أمني واسع النطاق. وبفحص الأكياس، كانت الصدمة: الجثمان لطفل صغير لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، ونقلت الأشلاء إلى مشرحة مستشفى جامعة قناة السويس، وأُخطر فريق النيابة العامة لمباشرة التحقيقات، وسط ذهول رجال الأمن من فظاعة المشهد، ولكن لم تستمر الحيرة كثيرًا؛ فتحريات المباحث تكشف المفاجأة وتحل اللغز.. القاتل طفل، لكن كيف؟! منذ اللحظات الأولى، شكّلت مديرية الأمن فريق بحث موسّع ضم المقدمين محمد هشام، وأحمد جمال، والنقيب محمود طارق، وتم تتبّع خط سير الطفل المجني عليه الذي أبلغ والده عن اختفائه عقب خروجه من المدرسة بيوم واحد، وبمراجعة كاميرات المراقبة في محيط المدرسة، ظهر المجني عليه برفقة زميله يوسف. أ. ع، الذي يبلغ من العمر 13 عامًا، حاول الأخير التهرب في البداية، مدّعيًا أنه افترق عن صديقه في منتصف الطريق، لكن الكاميرات كشفت الحقيقة كاملة: الطفلان دخلا إلى منزل يوسف، ولم يخرج المجني عليه بعد ذلك. تمت مداهمة المنزل، فعُثر داخله على ملاءة ملطخة بالدماء وأداة نجارة عليها آثار حديثة للاستخدام. عندها انهار المتهم واعترف تفصيليًا بما فعله، لتتحول القصة من واقعة اختفاء إلى واحدة من أبشع جرائم القتل في تاريخ الإسماعيلية. من مشادة إلى جريمة بشعة روى المتهم في اعترافاته أنه دخل في مشادة كلامية مع زميله في المدرسة قبل أيام من الحادث، بعدما وجّه له الأخير إهانة لوالدته، فاشتعل الغضب في صدره، وبدأ يفكر في الانتقام، وفي يوم الواقعة، استدرجه إلى منزله بحجة المذاكرة واللعب، وهناك ضربه بعصا خشبية على الرأس حتى فقد الوعي، ثم استغل وجود منشار كهربائي في ورشة والده الذي يعمل نجارًا، وبدأ في تقطيع جسد صديقه إلى ستة أجزاء، ثم وضعها داخل أكياس سوداء، وألقى بها واحدًا تلو الآخر بجوار مول شهير الإسماعيلية. تلك التفاصيل المرعبة التي سردها الطفل ببرود، كشفت عن خلل نفسي وانعدام إحساس بالذنب أو الإدراك لحجم الكارثة التي ارتكبها، المفاجأة الأكبر أن المتهم اعترف بتأثره بمسلسل أجنبي بعنوان ديكستر، تدور أحداثه حول قاتل متسلسل يقطّع ضحاياه بنفس الطريقة. قال الطفل في التحقيقات: «كنت عايز أشوف إحساسي لما أعمل زي اللي في المسلسل.. هو كمان بيقطع الناس وما بيحسش بحاجة»!، وهي عبارة دوّنتها النيابة في محضرها كأخطر دليل على مدى الانهيار في وعي المراهقين بفعل المحتوى العنيف المنتشر على الإنترنت دون رقابة. اقرأ أيضا: التحفظ على والد طفل الإسماعيلية المتهم بقتل زميلة وتقطيع جثته قرار النيابة بناءً على ما تضمنته التحريات من صغر سن المتهم واضطرابه الانفعالي، أمرت النيابة العامة بإيداعه داخل دار رعاية لمدة سبعة أيام قابلة للتجديد، مع عرض حالته على لجنة طبية متخصصة لفحصه نفسيًا وعصبيًا، وبيان مدى سلامة إدراكه ومسئوليته الجنائية وقت ارتكاب الجريمة، كما أمرت بفحص الأدوات المستخدمة وتحليل عينات الدم المأخوذة من المتهم والمجني عليه، إلى جانب تحليل بول للمتهم لبيان ما إذا كان قد تناول مواد مخدرة أو مؤثرة نفسيًا قبل الجريمة. تحليل نفسي شيّع المئات من أبناء الإسماعيلية جثمان الطفل محمد. م. م في جنازة مهيبة خرجت من مسجد القرية، وسط صرخات والدته التي لم تحتمل رؤية النعش الصغير، وبكاء والده الذي اكتفى بترديد عبارة واحدة: «ده كان صاحبه الوحيد.. صاحبه اللي قتله»، المدينة كلها اتشحت بالسواد، والمدارس أغلقت أبوابها في صمت ثقيل، بينما ترددت الدعوات بضرورة محاسبة كل من أهمل أو قصّر في مراقبة الأطفال ومتابعتهم. يبقى السؤال: كيف يرى الطب النفسي هذا الطفل؟! أكد الدكتور عمرو شليل، استاذ الطب النفسي: أن الجريمة التي هزت الرأي العام مؤخرًا بعد إقدام طفل على قتل صديقه والتخلص من جثته، صحيح أنها حادثا فرديا، ولكنه ناقوس خطر يقرع في ضمير المجتمع كله، مشيرًا إلى أن ما حدث يعكس أزمة نفسية واجتماعية عميقة يعيشها جيل كامل تاه بين العالم الافتراضي والغياب الأسري. وقال د. شليل: إن الطفل لا يُولد مجرم، لكنه قد يتعلّم القسوة من البيئة التي ينشأ فيها، مضيفًا أن غياب الاحتواء الأسري واستبدال الحوار بالصراخ والعاطفة بالإهمال يؤدي إلى تشوه صورة الأمان داخل عقل الطفل، فيبدأ في البحث عن القوة في السيطرة لا في الفهم، وفي التحدي لا في التعاطف. وأوضح أن المحتوى العنيف في الألعاب الإلكترونية ومقاطع الفيديو المنتشرة عبر الإنترنت يزرع في عقول الأطفال فكرة أن القتل والعنف وسيلتان طبيعيتان لحل الخلافات، لافتًا إلى أن الخطورة تبدأ حين يفقد الطفل الإحساس بالألم والخوف ويتحول الألم إلى فضول، وهنا تكون أولى مراحل الانفصال عن الضمير. وشدد دكتور علم النفس على أن الأسرة هي خط الدفاع الأول ضد الانحراف، مشيرًا إلى أن أخطر ما يهدد أبناءنا اليوم ليس الفقر أو التكنولوجيا، بل الغياب العاطفي، لأن الطفل حين لا يجد من يسمعه أو يحتويه، يبحث عن هوية بديلة في العالم الافتراضي، وهناك يلتقطه أي محتوى مضلل أو تحدٍ خطير. وأكد أن الحوار مع الأبناء ليس ترفًا بل ضرورة، وأن الاحتواء لا يعني الضعف، موضحًا أن الصراخ الدائم لا يخلق الاحترام بل الخوف والكراهية الصامتة، داعيًا الأسر إلى استعادة دورها التربوي والإنساني داخل البيت. وأشار د. شليل إلى أن تكرار جرائم الأطفال والمراهقين هو نتيجة مباشرة لغياب الوعي النفسي داخل مؤسسات التنشئة الأولى مثل الأسرة والمدرسة والنادي ووسائل الإعلام، محذرًا من أن إهمال التربية النفسية يولد الغضب والعنف والإدمان، وطالب بضرورة إدخال الوعي النفسي في المدارس والجامعات من خلال محاضرات وورش عمل، وتفعيل دور الأخصائي النفسي ليصبح جزءًا من الحياة اليومية للطلاب، إلى جانب تنظيم ندوات توعوية في الأندية ومراكز الشباب، وإطلاق حملات وطنية للوعي النفسي والاجتماعي. واختتم د. عمرو شليل تصريحه ل»أخبار الحوادث» بقوله: «هذه الجريمة لم تبدأ بسكين أو منشار كهربائي، بل بدأت بصمت طويل لم يسمعه أحد من الأسرة»، مؤكدًا أن الوقاية من الجريمة لا تكون فقط بتشديد العقوبة، بل ببناء الإنسان من الداخل، وأن التوعية والحوار والاحتواء هي الطريق الحقيقي لاستعادة إنسانية مهددة بالضياع. صورة طفلين في النهاية، لم يبقَ من الواقعة إلا صورتان لطفلين كان يفترض أن يلعبا سويًا في فناء المدرسة، أحدهما وُضع جسده داخل خمسة أكياس سوداء، والآخر يقبع داخل دار رعاية يخضع لفحص نفسي، ينتظر المجهول، جريمة الإسماعيلية لم تقتل طفلًا واحدًا، بل قتلت براءة جيل بأكمله، وطرحت أسئلة مؤلمة حول غياب الوعي، وانهيار دور الأسرة والمدرسة، وتساهل المنصات في عرض المحتوى العنيف للأطفال. جرس إنذار قبل فوات الآوان إن ما حدث ليس مشهدًا سينمائيًا، بل واقعا مريرا يجب أن يدفع المجتمع كله إلى التوقف والمراجعة، ففي زمنٍ صار فيه الطفل يحمل هاتفًا قبل أن يحمل كتابًا، ويعيش أمام شاشة أكثر مما يعيش مع أسرته، قد نجد أنفسنا أمام أجيال بلا إحساس أو انتماء، تنمو على أصوات العنف والصراخ لا على قيم الرحمة والحوار. جريمة الإسماعيلية تقولها بوضوح: إذا لم نربّ أبناءنا على الوعي، فسيربيهم الإنترنت على الجريمة.