يستكمل الشيخ الشعراوى، خواطره حول سورة البقرة بقوله: «للنظر إلى دقة الحق حين ضرب مثلًا للذين كفروا بامرأة نوح وامرأة لوط، حين قال جَلَّ وعلا: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئًا وَقِيلَ ادخلا النارَ مَعَ الداخلين﴾ «التحريم: 10». اقرأ أيضًا| خواطر الشعراوي.. معنى «ألم تر» ولم يحدد لنا اسم امرأة من هاتين المرأتين، بل ذكر الأمر المهم فقط؛ وهو أن كلًا منهما زوجة لرسول كريم، ولكن كلًا منهما أصرت على الكفر فدخلتا النار، ولكن الحق سبحانه وتعالى، حين أراد التخصيص بحادث لن يتكرر فى أى زمان أو مكان جاء بذكر السيدة مريم بالتشخيص والتحديد الواضح، حين قال: ﴿وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين﴾ «التحريم: 12». تحديد الحق لمريم بالاسم والحادث لماذا؟ لأن الواقعة غير قابلة للتكرار من أيَّةِ امرأة أخرى. التشخيص هنا واجب؛ لأنه لن تلد امرأة من غير زوج إلا هذه، إنما إذا كانت المسألة ستتكرر فى أى زمان أو مكان، فهو سبحانه يأتى بوصفها العام، ومثال ذلك قول الحق: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَآجَّ إبراهيم﴾ فلم يقل لنا: مَن هو؟ «حاجَّ» أصلها «حاجج»، مثل «قاتل» و«شارك»، وعندما يكون هناك حرفان مثلان، فنحن نسكن الأول وندغم الثانى فيه وذلك للتخفيف، فتصير (حاج)، و«حاج» من مادة «فاعل» التى تأتى للمشاركة، وحتى نفهم معنى «المشاركة»، إليكم هذا المثال: نحن نقول: قاتل زيد عَمرًا، أو نقول: قاتل عمرو زيدًا، ومعنى ذلك أن كُلًاّ منهما قد تقاتل، وكلاهما فاعل ومفعول فى الوقت نفسه، لكننا غلبنا جانب الفاعل فى واحد، وجانب المفعول فى الثاني، برغم أن كلًا منهما فاعل ومفعول معًا. اقرأ أيضًا| خواطر الشعراوى |العروة الوثقى ومثال آخر، حين نقول: شارك زيد عمرًا، وشارك عمرو زيدًا، إذن فالمفاعلة جاءت من الاثنين، هذا فاعل وهذا مفعول، لكننا عادة نُغلب الفاعلية فيمن بدأ، والمفعولية فى الثاني، وإن كان الثانى فاعلًا أيضًا. ونحن نعرف من قواعد اللغة ما درسناه قديمًا ما يُسمى بالبدل، والبدل يأخذ حكم المُبدل منه، فإن كان المُبدل منه مجرورًا، كان البدل كذلك. وكذلك فى قول الحق سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَآجَّ إبراهيم﴾، نحن نلاحظ أن كلمة ﴿إبراهيم﴾ تأتى فى الآية الكريمة منصوبة بالفتحة، أى يغلب عليها المفعولية، فمَن إذن الذى حاجَّ إبراهيم؟ إنه شخص ما، وهو الفاعل؛ لأنه الذى بدأ بالمحاجّة، وهكذا تدلنا الآية الكريمة، وتصف الآية، ذلك الرجل ﴿أَنْ آتَاهُ الله الملك﴾، أى أن الرجل هو الذى بدأ الحجاج قائلًا لإبراهيم: مَن ربك؟ فقال إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّيَ الذى يُحْيِى وَيُمِيتُ﴾، وهذه هى براعة القرآن فى أن يترك الشيء ثقة بأن السامع يرد كل شيء إلى أصله، فقوله الحق: ﴿إِذْ قَالَ إبراهم رَبِّيَ الذى يُحْيِى وَيُمِيتُ﴾، فكأنَّ الذى حاج إبراهيم سأله: مَن ربك؟ فقال إبراهيم: ﴿رَبِّيَ الذى يُحْيِى وَيُمِيتُ﴾. اقرأ أيضًا| خواطر الشعراوى | لا إكراه فى الدين ولنا أن نلحظ أن هذه الآية قد جاءت بعد قول الحق فى الآية السابقة: ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ﴾، والولاية هى النصر والمحبة والمعونة، فيريد سبحانه أن يُبَيِّن لنا كيف أعان الله إبراهيم على مَن حاجه، إلا أن الذى حاج إبراهيم دخل فى متاهات السفسطة، بعد أن سمع قول إبراهيم: ﴿رَبِّيَ الذى يُحْيِى وَيُمِيتُ﴾، وقد جاء الحق ب ﴿يُحْيِى وَيُمِيتُ﴾؛ لأن تلك القضية هى التى لم يَدَّعِ أحدٌ أنه فعلها، ولم يَدَّعِ أحدٌ أنه شريك فيها، حتى الكافرون إذا سألتهم: مَن الذى خلق؟ يقولون الله. إذن فهذه قضية ثابتة، إلا أن الخصم الذى حاجَّ إبراهيم أراد أن ينقل المحاجة نقلة سفسطائية، والسفسطة كما نعلم هى الكلام الذى يطيل الجدل بلا نهاية.