يستكمل الشيخ الشعراوى خواطره حول سورة البقرة بقوله: ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة واقعية فى الكون من قوله: ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ﴾، فهو الولى، وهو الناصر فيقول سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك...﴾ وساعة تسمع ﴿أَلَمْ تَرَ﴾؛ فأنت تعلم أنها مكونة من همزة هى «أ» وحرف نفى وهو «لم»، ومنفى هو «تر» والهمزة: تأتى هنا للإنكار، والإنكار نفى بتقريع، ولكنها لم تدخل على فعل مثبت حتى يقال: إنها أنكرت الفعل بعدها، مثلما تقول للولد: أتضرب أباك! هنا الهمزة جاءت لا لتستفهم وإنما أتت تنكر هذه الفعلة، لأن الفعل بعدها مثبت وهو «تضرب»، وجاءت الهمزة قبله فتسمى «همزة إنكار» للتقريع. إذن فالإنكار: نفى بتقريع إذا دخلت على فعل منفى. وما دام الإنكار نفيًا والفعل بعدها منفيٌ فكأنك نفيت النفى، إذن فقد أثبته، كأنه سبحانه عندما يقول للرسول : ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ فالمقصود «أنت رأيت». ولماذا لم يقل له: أرأيت؟ لقد جاء بها بأسلوب النفى كى تكون أوقع، فقد يكون مجيء الإثبات تلقينًا للمسئول، فعندما يقول لك صديق: أنت لم تسأل عنى وأنت تهملنى. فأنت قد ترد عليه قائلًا: ألم أساعدك وأنت ضعيف؟ ألم آخذ بيدك وأنت مريض؟. لقد سبق أن قدمت خدماتك لهذا الصديق، ولكنك تريد أن تنكر النفى الذى يقوله هو، وهكذا نعلم أن نفى النفى إثبات، ولذلك فنحن نأخذ من قوله تعالى من هذه العبارة ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ على معنى: أنت رأيت، والرؤية تكون بالعين فهل رأى رسول الله وهو المخاطب الأول بالقرآن الكريم من ربه هل رأى رسول الله هذه الحادثة أيام إبراهيم؟ طبعًا لا، فكأن ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ هنا تأتى بمعنى: ألم تعلم. ولماذا جاء ب ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ هنا؟ لقد جاء بها لنعلم أن الله حين يقول: «ألم تعلم» فكأنك ترى ما يخبرك به، وعليك أن تأخذه على أنه مصدق كأنك رأيته بعينك. فالعين هى حاسة من حواسك، والحاسة قد تخدع، ولكن ربك لا يخدع، إذن ف ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ تعنى: «ألم تعلم علم اليقين»، وكأنك قد رأيت ما يخبرك به الله، ولذلك يقول تعالى للرسول: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل﴾ «الفيل: 1». والرسول ولد عام الفيل، فلم ير هذه الحادثة، وكأن الله يخبره بها ويقول له: ألم تعلم، وكأنه يقول له: اعلم علمًا يقينًا كأنك تراه؛ لأن ربك أوثق من عينيك. وعندما يقال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ فالمراد بها «ألم تر كذا»، لكن الحق قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ﴾ واستعمال حرف ﴿إِلَى﴾ هنا يشير إلى أمر عجيب قد حدث ومثال ذلك ما نقوله أحيانا: ألم تر إلى زيد يفعل كذا. فكأن ما فعله زيد أمر عجيب، وكأنه ينبه هنا إلى الالتفات إلى نهاية الأمر، لأن «إلى» تفيد الوصول إلى غاية، فكأنها مسألة بلغت الغاية فى العجب، فلا تأخذها كأنك رأيتها فقط، ولكن انظر إلى نهايتها فيما حدث. والحق يقول هنا: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ﴾ و﴿إِلَى﴾ جاءت هنا لتدل على أنه أمر بلغ من العجب غاية بعيدة، وهو بالفعل قد بلغ من العجب غاية بعيدة، والحق سبحانه وتعالى لم يقل لنا من هو ذلك الإنسان الذى حاج إبراهيم فى ربه، لأنه لا يعنينا التشخيص سواءً كان النمروذ أو غيره. فإذا ذهب بعض المفسرين إلى القول: إنه ملك واسمه النمروذ. فإننا نقول لهم شكرًا لاجتهادكم، ولكن لو شاء الله تحديد اسم الرجل لحدده لنا، والذى يهمنا هو أنه واحد خرج على رسول الله إبراهيم عليه السلام وجادله فى هذه المسألة، والتشخيص هنا ليس ضروريًا، والحق سبحانه وتعالى حينما يريد شيوع الأمر وإمكان حدوثه فى أى زمان أو مكان فإن الله لا يشخص الأمر، فأى إنسان فى أى مكان قد يحاجج أى مؤمن. وليس كذلك الأمر بالنسبة لأى تشخيص أو تحديد، ومثال ذلك هؤلاء الذين يريدون أن يعرفوا قصة أهل الكهف، ويتساءلون: أين ومتى، وكم عددهم، ومن هم؟. ونقول: لو جاءت واحدة من هؤلاء لفسدت القصة؛ لأنه لو حددنا زمانها فسيأتى واحد يقول لك: مثل ذلك الزمان الذى حدثت فيه القصة كان يسمح بها. ولو حددنا المكان سيقول آخر: إن المكان كان يسمح بهذه المسألة. ولو حددنا الأشخاص بأسمائهم فلان وفلان، فسيقول ثالث: إن مثل هذه الشخصيات يمكن أن يصدر منها مثل هذا السلوك وأنَّى لنا بقوة إيمان هؤلاء؟. والحق لم يحدد الزمان والمكان والأشخاص وجاء بها مبهمة ليدل على أن أى فتية فى أى زمان وفى أى مكان يقولون ما يقولون، ولو شخصها فى واحد لفسد المراد.