كنت قد وعدتكم بالحديث عن أسرار «ألم ترَ»، إذن ألم تر يا صديقى القرآن العظيم بين أيدينا وقد اتخذناه مهجوراً، ألم ترَ يا صديقى الإسلام وقد انطلق نوره للعالمين فجعلناه سيوفاً وقبوراً، سأظل أكتب ألم تر.. ألم تر، ولا أظن أن معظمنا سيرى، فقد جعلنا على الإسلام حجاباً كثيفاً يمنع البشر من رؤيته على حقيقته، أو بالأحرى من رؤيته أصلاً، ثم قلنا للناس آمنوا بهذا الذى لا ترونه، أو آمنوا بهذا الذى لا ترون منه إلا السيف والقبر! آمنوا بهذا الدين الذى له شركاء فى التشريع، فأقوال الصحابة دين، واجتهادات التابعين دين، وفقه الفقهاء دين، فإن آمنت بالقرآن والحديث الصحيح، ورفضت أقوال الصحابة واجتهادات التابعين وفقه الأولين فأنت عند هؤلاء كافر! والكفر عندهم ليس هو «معرفة الحق ثم إنكاره وجحده» ولكن الكفر عندهم هو «عدم الإيمان بما يؤمنون هم به»!. أنا لا أؤمن أى أننى لا أرى «هذا» صحيحاً، فإذا قلنا على أحد إنه «كافر» فإن هذا يعنى أنه يرى «هذا» صحيحاً ولكنه ينكره، بما يعنى أننا يجب أن ندخل إلى قلبه لنعرف خفاياه ونتأكد من أنه يعرف الحق وينكره، وهذا لا سبيل للبشر إلى معرفته، هو الله فقط الذى يعلم السر وأخفى، فما لنا نتألى على الله! الفارق بين عدم الإيمان بالله والكفر به هو كالفارق بين الظلام وإغماض العين، فغير المؤمن بالله يسير فى ظلام فأنَّى له أن يرى، ومن بيدهم إنارة الطريق أمامه يفقأون عينيه، ومن يغمض عينيه يفعلها عمداً حتى لا يرى النور، فهل يستويان مثلاً، مصداقاً لقوله تعالى «مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلَا تَذَكَّرُونَ» وفى هذه الآية أورد الله سبحانه وتعالى الأشياء المتناقضة، ليحكم من يتدبر القرآن، وليتفكر فى الفارق بين الذى يرى ومن هو أعمى، وكذلك بين من يسمع ومن هو أصم، ثم يقول لنا «هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً» وفى آية أخرى يبين الله لنا أن الكفر حالة قلبية، فيها عمى ولكنه عمى يختلف عن عمى الأبصار، هو عمى القلوب، إذ يقول «فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَىٰ الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ». الرؤية إذن هى المفتاح، والرؤية ليست حالة بصرية، ولكنها حالة إيمانية متصلة بالعلم والمعرفة، ومن ظن أن كلمة رؤية تعنى المشاهدة البصرية فهو واهم، فالله سبحانه حين قال «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ» لم يقصد المشاهدة بالعين، ولكن المعنى ينصرف للعلم، وكذلك «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ»، و«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ»، فإذا تدبرنا كل الآيات التى أورد الله فيها «أَلَمْ تَرَ» سنجدها تنقسم إلى ثلاثة أقسام؛ القسم الأول متعلق بالحوادث التاريخية لأمم سابقة، كأصحاب الفيل وعاد والذى حاج إبراهيم، وهذه أشياء لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا المسلمون شهود معاينة بصرية لها، ولكنهم شهود عن طريق الإخبار من الله سبحانه، فحين يقول «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ» أى انظر كيف فعل ربك بعاد! ولكننا لم نكن يا رب فى هذا المشهد؟! لا بل أنتم فى المشهد بإخبار الله لكم إياه، فبمجرد إخبار الله لنا به فكأننا قد شاهدناه بصرياً، ولكن لأننا لم نشاهده فى الحقيقة بصرياً، لذلك أورد الله كلمة «ترى» أى «تعلم» فأصبح العلم مساوياً للرؤية البصرية، فالعلم هنا هو التصديق والإيمان، فأنت تؤمن بالله دون أن تكون فى حاجة إلى «تشخيصه» فى شكل أو قالب أو هيئة، أنت ترى الله رؤية العلم لا رؤية البصر. والقسم الثانى من آيات «أَلَمْ تَرَ» مرتبط بالأحداث التى كانت تجرى للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن أسرارها كانت فى القلوب، فكشف الله للرسول صلى الله عليه وسلم ما فى القلوب فرآها رؤية العلم والمعرفة، ومن هذه الآيات ما قلناه عن «الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ» فحين تحدثنا عن هذا الصنف قلنا إنهم من اليهود، وأن الحديث عنهم كان مرتبطاً بحوادث حياتية كقوله تعالى «أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ» هذا الفريق الذى تولى وابتعد عن الرسول كفراً، ما الذى دعاهم إلى الكفر وهم يعلمون، يقول الله للرسول فى بداية الآية «أَلَمْ تَرَ» أى اعلم، فعل أمر، وفى الآية التى بعدها يخبره عن الذى يجب أن يعلمه، عن هذا الذى غاب عنه وقتها حين أعرض عنه هذا الفريق ولم يدر سببه، فيقول «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ» أى أنهم يا محمد لم يكذبوك، اعلم أنهم يعرفون الحق ولكنهم أنكروه على ظن منهم أنهم لن يدخلوا النار إلا أياماً معدودات، وعن أولئك يقول الله أيضاً «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ» أى أن هؤلاء يعيشون حالة قلبية متخمة بالضلال، هذه الحالة القلبية لا تراها لأنهم يخفونها، ولكن «أَلَمْ تَرَ» أى اعلم أنهم يريدون أن تضلوا عن السبيل، وتأتى الآية الثالثة فى نفس السياق «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً». كل «أَلَمْ تَرَ» هنا هى إخبار من الله، ولأن الذى أخبر هو الله والمتلقى هو «نحن» إذن فهذا علمٌ قطعى غير ظنى، لذلك أنت تراه، ونأتى إلى القسم الثالث وهو المتعلق بالآيات الكونية حيث طلب الله منا أن نتفكر فيها، وعبارة «أَلَمْ تَرَ» فيها هى دعوة للتفكر، فإذا تفكرت سترى، «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَه لَطِيفٌ خَبِيرٌ» تفكر وسترى «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَه بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» تفكر وسترى «أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً» وهكذا تأتى كل آيات «أَلَمْ تَرَ» الأخرى، كلها دعوة للتفكر والتدبر، فإذا تفكرت وتدبرت رأيت فقلت «ربَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ». انتهينا الآن إلى أن الرؤية علم ومعرفة وليس المقصود منها رؤية البصر أبداً، والغريب أن العلماء على مدار عصور خلطوا بين الرؤية والمشاهدة البصرية، فعن «رؤية» الهلال مثلاً تتابعت آراء العلماء عبر الأجيال على أن رؤية الهلال يجب أن تكون بالبصر، ليس هذا فحسب إذ يجب فى رأى البعض أن تكون الرؤية قاصرة على البصر المجرد دون الاستعانة بآلة أو عدسة لتقريب المسافات أو دون الاستعانة بالمراصد والحسابات الفلكية لإدراك الهلال!. والحجة التى يستند لها أصحاب هذا الرأى ويتساندون عليها هى حديث «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» ومن هذا الحديث رأى علماء الأمة على مدار عصورها إلا قليل منهم وجوب «رؤية الهلال بالعين المجردة» دون الاستناد لوسيلة معرفية أخرى، رغم أن الرؤية أوسع وأعم وأشمل من المشاهدة والبصر والنظر، أما وقد وردت الرؤية فى الحديث على العموم فينبغى أن تُفهم على سياق هذا العموم دون أن نضع لها قيد البصر، وقد وردت الرؤية كما قلنا فى كثير من الآيات فى القرآن الكريم على نحو يدل على الإدراك بحاسة غير حاسة البصر، وتدل على الإدراك بالفؤاد والعقل والقلب، أما الكلمة فى اللغة التى تعنى إدراك الأشياء بالعين فهى البصر كقوله سبحانه وتعالى «وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا» وفى سورة طه «قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» وتستخدم كلمة البصر ومشتقاتها أحياناً للدلالة على الوضوح مثل قوله تعالى فى سورة الإسراء «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَىْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا» وهذه الآية فى حد ذاتها تشير إلى أن الأيام والشهور والسنين إنما تكون من توالى الليل والنهار، فإذا كانت كلمة الرؤية فى اللغة عظيمة الاتساع فى معانيها وفقاً لما سبق، فهل يصح لنا فى مجال رؤية الهلال أن نضيق واسعاً ونتجمد عند أحد معانى الرؤية دون باقى المعانى؟ هذه بعض أسرار «أَلَمْ تَرَ» دخلنا إليها من باب «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ».. ولأهل الكتاب والسلام عليهم والترحم على موتاهم حديث مقبل فانتظرونى.