دميتري لازاريف - ترجمة: آية حسن حسان ( البيليترستيكا: كلمة روسية من أصل فرنسي (belles-lettres) كانت تشير في البداية إلى الأدب الذي يعتمد على اللغة الجميلة المنمقة دون النظر إلى موضوع. وحاليا تشير إلى الأدب القصص الشعبي أو أدب الترفيهي، الذي يُكتب أساسًا للتسلية والانتشار الواسع، تمييزًا له عن «الأدب الرفيع» ذو القيمة الفنية العميقة). كثير من المؤلفين الذين أصدروا عددًا من الكتب يرون أنهم أدركوا أسرار المهنة، وبوسعهم أن يعلموا غيرهم يكتبون أعمالًا بعناوين مثل» كيف تكتب رواية عبقرية» أو «كيف تصبح كاتبًا» أو «كيف تصبح الأكثر مبيعًا،» وما إلى ذلك. ويجب أن أقول إن لهم بعض الحق معظم توصياتهم نافعة جدًا وتستحق الانتباه غير أن مناهج عملية كتابة العمل الأدبي نفسها فردية إلى حد بعيد، ولا ينبغي تلقيها كقوانين واجبة التنفيذ. هنا أريد أن أعرض آراء مختلفة حول عملية الكتابة ذاتها ورأيي الشخصي في هذه المسألة. أظن أن كل من يقرأ هذه السطور يحب «الفانتازيا/الخيال» والبعض يكتبها أيضًا. لكنها ليست إلا جزءًا من نوع أدبي متعدد الألوان، أو كما يقال البيليترستيكا. فلنتحدث إذن عن كيف تكتب البيليترستيكا. أولا ماذا يعني هذا اللفظ؟ بحسب تعريف الموسوعة هو «الأدب الإبداعي» أو على وجه الدقة النثر الأدبي وكلمة إبداعي تفترض الفن فلماذا إذن تشبه معظم الكتب عن مهارة الكتابة كتبًا مدرسية أو جامعية تعرض فيها قواعد، بل وأحيانا خوارزميات لصنع العمل الروائي؟ أهو علم؟ ولكن من جهة أخرى ينشغل كثير من المؤلفين بكتابة أعمال تجارية صرفة، كتب تباع جيدًا، مسترشدين بطرق معينة وبأساليب قياسية مع تبديلات طفيفة وهم يفعلون ذلك لغرض واحد وحيد وهو كسب الرزق. فهل هي حرفة إذن؟ ليس الأمر بهذه البساطة لنحاول الفهم. لنبدأ بالقاعدة الأساسية الواردة في جميع هذه الكتب «الفكرة بداية كل البدايات» الجدل هنا حول كلمة «بداية» لا حول الفكرة نفسها أظن أن لا أحد سيعترض على أن كتابًا بلا فكرة، كتب لمحض المتعة التي ينالها المؤلف من إسهابه اللفظي، ليس أدبًا، ولذا يوجد مصطلح خاص هوس الكتابة (الجرافومانيا) إذن لا بد من حضور الفكرة، التي من أجلها تكتبون كتابكم لكن هل يجب أن تكون البداية هي كل البدايات؟ أم يجوز أن تظهر خلال العملية الأدبية؟ فهذا موضع خلاف هنا تتباين آراء الكتاب أما أنا فتعجبني الفكرة القائلة إن الرواية تبدأ بإحساس ما، بحالة من الروح، يُراد أن تصاغ في كلمات وتنقل إلى الآخرين. بالمناسبة فيما يتعلق بالأفكار، كما تطبق على الفانتازيا، في هذا النوع الأدبي المتميز، لا تقتصر الفكرة على الحبكة الرئيسية التي تريد إيصالها للقارئ، بل تشمل أيضًا العالم الداخلي وهي فكرة أصيلة (أو غير أصيلة) تدور حولها القصة بأكملها ومن هذه الأفكار الخيالية البحتة «الآخرون» في سلسلة «ساعات» لوكيانينكو، أو «حلقات القوة» عند «تولكين يمكن تقديم المزيد من الأمثلة، لكن تذكر النقطة الرئيسية: هذه الفكرة الثانية في الفانتازيا هي حجر الأساس الذي يعتمد عليه لإثارة اهتمام القارئ. والآن لنتحدث عن الشخصيات كما لاحظ بدقة الكاتب الأمريكي جيمس فراي: «الشخصيات هي المادة التي يُبنى منها كامل الرواية» لا أظن أحدًا يختلف أن شخصيات العمل الرئيسة يجب أن تكون لافتة، متعددة الأبعاد، ومقنعة بطبيعتها. ولأجل ذلك يلزمكم أن تعرفوا شخصياتكم كما تعرفون أقرب الناس. وهنا يتفق مؤلفو كل كتب «صنعة الكتابة». ثم تظهر الاختلافات وفقا للمنهج العلمي ينبغي إعداد الشخصية، أي وضع سيرة تفصيلية للشخصيات من أجل نفسك في المسودة في هذه السيرة ينبغي عرض كل ما يتوقف عليه سلوك الشخصية وقراراتها في المواقف المختلفة لكن الأهم أن ينتهي الأعداد قبل بداية كتابة الرواية. هذا علم خالص: أولًا إعداد المعطيات، ثم الشروع في معالجتها، أي كتابة الكتاب نفسه. أما فيما يتعلق بالنهج الإبداعي الذي ينظر إلى الكتابة على أنها فن، فهو ينصح بالتعرف إلى بطلك تدريجياً، في سياق الفعل، تماماً كما يحدث في الحياة، عندما تتعرف على شخص جديد. ومع تطور الأحداث سيبدأ بطلك في الانكشاف أمامك من زوايا مختلفة، مشكلاً شيئاً فشيئاً صورة شخصية متكاملة. ها قد وصلنا إلى الحبكة التي تعد ربما أهم ما في الأدب فما هي الحبكة في جوهرها؟ العلماء يعرفونها على النحو التالي: «الحبكة هي عرض متتابع للأحداث، يشارك فيها أشخاص - شخصيات، ويتغيرون نتيجة ما يجري من أحداث» معظم الناس يقرؤون كتب النوع الخفيف، الذي يمكن أن ندرج فيه الخيال العلمي أيضاً، تحديداً من أجل حبكة مشوقة تأسرهم ولا تتركهم حتى النهاية. وهنا تبرز الناحية التجارية، المحببة جداً إلى قلوب أنصار النهج الحرفي، إذ إن الحبكة المشدودة الدرامية هي مصدر رزقهم. أساس الحبكة المشوقة هو الصراع وهنا يأتي العلماء لمساعدة الحرفيين، فيضعون كل شيء على الرفوف فهم يقسمون الصراعات إلى ثلاثة أنواع، ويمنحون كل نوع منها تعريفاً وتوصيات حول أيها أنسب في العمل الأدبي، كما يصرون على وضع خطة أولية تفصيلية لتطور الحبكة. أقتبس من جيمس ن. فري: «الخطة التفصيلية هي مخطط متسلسل للأحداث في العمل الأدبي. من خلال هذه الخطة يمسك الكاتب بخيوط الحبكة اعتبروا الخطة التفصيلية بمثابة رسم هندسي أو مخطط إنها ضرورية للغاية» بعد ذلك يقوم الحرفيون بتطوير هذه الفكرة، مقدمين توصيات مفصلة حول بناء التشويق، وإدخال المنعطفات غير المتوقعة، وتطور الصراع وحله، فضلاً عن مختلف الأساليب الكتابية المجربة شخصياً، القادرة على جعل كتابك ذا جدوى تجارية، أي قابلاً للبيع. أما أنصار النهج الإبداعي فيؤكدون أنه من المستحيل انتقاء محتوى الكتاب بشكل محسوب، كما يقيم المستثمر عروض الأسهم ليختار تلك التي تعطي أفضل عائد يقولون «لو كان الأمر كذلك لكانت أي رواية منشورة تصبح من فورها الأكثر مبيعاً» وأسهل طريقة لتوضيح جوهر النهج الإبداعي هي في أقوال أحد أبرز أنصاره ستيفن كينج «من وجهة نظري يتألف العمل الأدبي من ثلاثة عناصر: السرد، الذي ينقل الفعل من النقطة (أ) إلى (ي)، والوصف الذي يكون عالماً حسياً واقعياً للقارئ، والحوار الذي يبعث الحياة في الشخصيات، مانحاً إياها الكلام قد تسألون: وأين الحبكة، وأين التشويق؟ جوابي هو لا مكان لها أنا لا أؤمن بالتشويق لسببين: أولاً، حياتنا في مجملها خالية تقريباً من الحبكة، حتى لو أخذنا في الاعتبار كل الاحتياطات العقلانية والخطط المحكمة؛ وثانياً لأني أعتقد أن التفكير المسبق في الحبكة يتنافى مع عفوية الإبداع الحقيقي». يعرف كينج الكتاب على أنه أشبه بحفرية حجرية، موجودة سلفاً، وما على المرء سوى استخراجها بعناية من الأرض، محاولاً إلحاق أقل قدر من الضرر. «ولهذا يجب استخدام أدوات دقيقة ورقيقة، خرطوم هواء، عود، أو فرشاة أسنان أما الحبكة فهي ليست حتى معولاً، بل مطرقة كهربائية، أداة خرقاء، ميكانيكية، وبعيدة كل البعد عن الإبداع. وما ينتج عنها قد يخرج مصطنعاً ومتكلفاً» يكمل كينج «أساس كتبي هو الموقف، أضع شخصية أو عدة شخصيات في موقف صعب، وأراقب كيف سيخرجون منه. عملي ليس أن أساعدهم في ذلك أو أقودهم بخيوط إلى مكان آمن، مثل هذا العمل يتطلب ضجيج مطرقة الحبكة، بل أن أراقب وأسجل ما سيحدث غالباً ما تكون لدي فكرة عن الشكل الذي يجب أن ينتهي به كل شيء، لكنني لم أطلب أبداً من أبطالي أن يتصرفوا كما أريد. على العكس، أريدهم أن يتصرفوا بطريقتهم. أحياناً تكون الخاتمة كما تخيلتها. لكن في الأغلب يحدث شيء لم أتوقعه... وبشكل عام، لماذا كل هذا القلق بشأن الخاتمة؟ لماذا نسعى دوماً إلى التحكم في كل شيء؟ عاجلاً أم آجلاً سيقود السرد نفسه إلى شيء ما» أي نهج الأصح؟ هنا يختار كل شخص بنفسه، تبعاً لميوله وطبيعته. النهج العلمي المتداخل بقوة مع النهج الحرفي، الذي يفترض عملية منظمة، مقسمة إلى مراحل معينة، وتتطلب إعداداً دقيقاً وكثيراً من الصبر. وبهذا يبني الكاتب كتابه كما يبني البناء بيتاً: من الأساس إلى السقف، وفقاً لمعايير وقواعد وضعها أنصار النهج العلمي، غايتها إنتاج عمل ذي جودة، يحقق مبيعات جيدة. الإبداع هنا، بالطبع، حاضر أيضاً (فكيف بدونه؟) لكنه موضوع داخل إطار صارم إلى حد كبير. أما النهج الإبداعي فهو أكثر مرونة. الأساس هو إحساسك ورؤيتك لعالم كتابك. صحيح أن بعض القواعد يجب اتباعها هنا أيضاً، لكنها أقل فإذا لم يكن لديك الصبر للتحضير الطويل المسبق للمادة، وكانت القصة تناديك منذ الآن فالنهج الإبداعي هو الأفضل لك لكن يجب التنويه عن أي مادة يدور الحديث والمقصود هنا خطط الحبكة وسير الشخصيات غير أنه، أياً كان النهج، ينبغي أن تكون على دراية بما تكتب عنه، أو أن تكتب عما لا يعرفه أحد، وتخترع له قوانينه الخاصة ومع ذلك، حتى يبدو عالم عملك الأدبي واقعياً وملموساً للقارئ، فستضطر في كل الأحوال إلى جمع بعض المعلومات الفارق هو أنه في النهج الإبداعي يمكن القيام بذلك في أثناء العملية وقد قال كينج في هذا الصدد: «يجب أن نتذكر أن هناك فرقاً بين محاضرة عما تعرفه، وبين استخدام هذه المعرفة لإضفاء ألوان على الشيء الثانية جيدة، أما الأولى فلا» فما هي إذن الرواية الترفيهية، حرفة أم علم أم فن؟ لا جواب قاطع لهذا السؤال فالأمر يعتمد على عدة عوامل. أولها هدف الكاتب: هل يسعى إلى كتابة عمل عظيم يضاهي أفضل نماذج النوع الأدبي، أم إلى كسب المال، أم إلى قول شيء للناس ومشاركة عالمك الداخلي معهم؟ ثانيها براعة الكاتب كثير من «أهل الفن» المزعومين، الذين لا يهمهم سوى النتيجة التجارية لعملهم، هم في الواقع مجرد حرفيين. أما إذا كان في العمل موهبة وروح فإننا نتحدث عن فن. وقد عبر ستيفن كينج عن هذا الأمر ببلاغة في كتابه «عن الكتابة: مذكرات الحرفة»: «كلما كثر في العمل عنصر «يجب» على حساب «أريد»، كلما صار الأمر إشكالياً واحدة من أخطر مشكلات الكاتب هي أن تصبح «يجب» قاعدة. الكتابة ليست وسيلة لكسب المال، ولا لنيل المجد أو النساء أو الأصدقاء. في النهاية إنها إثراء لحياة من يقرأ عملك، وإثراء لحياتك أنت أيضاً إنها لكي ترتقي وتبلغ وتحقق. أن تصبح سعيداً، هذا هو الأمر، أن تصبح سعيداً». وبرأيي العلم والحرفة لا يجعلان الناس سعداء. قد يجعلانهم راضين نعم، لكن سعداء؟ لا فهذا لا يحققه سوى الفن. وسأوضح وجهة نظري بمثال. ذات مرة كنت أتحدث مع صديق عن الكتابة. نحن نعمل معاً في الهندسة المعمارية، وهو شخص بعيد عن الأدب لكن لمعرفته بمحاولاتي الأدبية سألني عما تشبه عملية كتابة العمل الفني، فوصفت له الأمر كما أشعر به: عملية طويلة وصعبة تبدأ بإحساس أو فكرة، ثم مسودة أولية، فبناء الحبكة والشخصيات، فالكثير من التنقيحات، وإعادة الكتابة، والحذف القاسي للمقاطع الزائدة، والعمل على الأسلوب واللغة وما إلى ذلك. استمع صديقي إلي بدهشة، ثم سأل: - فما الفرق إذن بينها وبين عمل المهندس؟ فهناك أيضا مجال للفن. اعترف أن هذا السؤال المباشر أزعجني قليلاً. لكن بعد أن جمعت أفكاري، أجبته هكذا: - المصمم مثل طائر في قفص. قد يكون القفص واسعاً جداً، لكنه موجود. إنه يبدع ضمن الإطار المفروض عليه من المهمة التقنية، التي تحدد خصائص المنتج وأبعاده ومعاييره. إنه مقيد بالكثير من القوانين الصارمة، التي لا يحق له تجاوزها. أما الكاتب في كتابه فهو ملك له يمكنه أن يبدع بما تمليه عليه روحه، والحدود هنا واسعة إلى درجة أنك كثيراً لا تلاحظها. صحيح أن هناك ما يسمى «قوانين الأنواع الأدبية» في الاتجاه الذي تعمل فيه. لكنها ليست قوانين صارمة بقدر ما هي قواعد مرنة ولينة (خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالخيال) ويمكن خرقها بشرط واحد: أن يكون ذلك لمصلحة العمل، لا لضرره. ففي الرواية الترفيهية قانون واحد لا يُمس: ألا يكون العمل مملا. الخلاصة؟ ما هي البيليترستيكا؟ أقول: هي كل ذلك مجتمعاً، جهد الحرفي الدؤوب، مضروباً بحدس وفراسة خيال الفنان، مضافاً إليه إصرار وتدقيق العالم. لكن برأيي الكتاب الجيد حقاً أقرب إلى الفن من أي شيء آخر. ونحن إنما نريد أن نقرأ ونكتب كتباً جيدة.