يخوض صناع اتفاق وقف الحرب فى قطاع غزة صراعًا مع دوائر اليمين الإسرائيلى المتطرف، التى حاولت -وما زالت- عرقلة تطبيق الاتفاق، أو على الأقل اختزاله فى مرحلته الأولى: وقف إطلاق النار، مقابل إطلاق سراح الرهائن. وإذا كانت حماس تجاوبت سريعًا مع الافراج عن الرهائن الأحياء، بموجب الاتفاق؛ انتقل اليمين المتطرف إلى دائرة الرهائن الأموات، وفيما أقر الصليب الدولى بصعوبة تسريع وتيرة الخطوة، وعزاها إلى تراكم أطنان المبانى فوق الرفات بفعل آلة الحرب الإسرائيلية، لم يقتنع اليمين الإسرائيلي، وطفق يضغط على الجميع: إما عودة الرفات، أو استئناف الحرب، ومنع المساعدات، وإغلاق معبر رفح، وربما العودة للقتال. اقرأ أيضًا | مي الصابغ: الهلال الأحمر المصري لعب دورًا محوريًا في إدخال المساعدات إلى غزة وطالب رئيس حزب «شاس» أرييه درعى، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بوقف تنفيذ الاتفاق مع حركة حماس، فى ظل ما أسماه «الانتهاكات المتكررة بشأن إعادة رفات الرهائن». وخلال لقاء مع نتنياهو، قال درعي: «يجب إيقاف كل بند من بنود الاتفاق مع حماس فورًا، بما فى ذلك فتح معبر رفح، وإدخال المساعدات، وأى إجراء يترتب عليه، حتى تعيد حماس جثثنا، وتتعاون بكل جدية فى هذه القضية. نحن ملتزمون باستعادة جميع أبنائنا لدفنهم فى إسرائيل». وفى محاولة لامتصاص ضغط اليمين، وفى المقابل تسريع عملية إعادة الرفات، كشفت قناة «أخبار 24» العبرية، تخصيص الإدارة الأمريكية مكافآت مالية كبيرة، لكل من يرشد عن مكان دفن رفات الرهائن فى قطاع غزة. ومع وضوح نوايا كافة الأطراف إزاء المضى قدمًا فى تطبيق اتفاق غزة، شككت دوائر سياسية إسرائيلية فى صمود الاتفاق حتى بعد إعادة رفات الرهائن، وعزت ذلك إلى ما وصفته ب«تفريط نتنياهو فى ثوابت، حرصت إسرائيل من البداية على ترسيخها فى القطاع، وفى مقدمتها: طرد حماس». وعند رصده لما أسماه «خسائر إسرائيل فى اتفاق غزة»، رأى الكاتب الإسرائيلى بن كسبيت أن «نتنياهو سلَّم جماعة الإخوان الإرهابية (رعاة حماس) مفاتيح قطاع غزة، وسمح بدخول قوات دولية، وهى الخطوة التى منعتها إسرائيل بأجسادها على مدار عقود طويلة». وفى مقال بصحيفة «معاريف»، تساءل الكاتب: «ما الذى حصلت عليه إسرائيل جراء توقيع الاتفاق؟»، وأجاب: «تعتزم قوات تركية تموضعًا فى قطاع غزة، وانتقلت إدارة معبر رفح، ومحور فيلادلفيا إلى رجال أبو مازن، وعاد ضخ الأموال القطرية إلى القطاع». وأضاف: «رغم كل هذه الخسائر، يتوقع نتنياهو منا تقديم عبارات الشكر والإشادة، ويصفنا بالوقاحة إذا لم نفعل ذلك، وتناسى أنه أطلق سراح يحيى السنوار من السجون الإسرائيلية قبل اغتياله، فضلًا عن إفراجه عن 1026 سجينا فلسطينيا من السجون الإسرائيلية، ورفض صفقات لا حصر لها، وترك 42 رهينة حتى الموت». وفى انتقاد صريح لرئيس الوزراء الإسرائيلي، أوضح الكاتب «افتقار نتنياهو على مدار عامين إلى إنهاء مشكلة غزة بنفسه، ليأتى الحل من واشنطن ترامب، رغم إدراك نتنياهو حقيقة استنفاد الحرب طاقتها منذ زمن، وأن كل يوم إضافى يكلفه أرواحًا بشرية، وأموالًا طائلة، وانهيارًا مستمرًا فى مكانة إسرائيل بين دول العالم». استسلم نتنياهو كما يقول بن كسبيت لتهديدات الوزيرين بن جفير وسموتريتش، بالإضافة إلى ضغوط قاعدة اليمين المتطرف، وبدلًا من سرعة حسم الموقف، وقف عاجزًا حد انتظار تلقى اتصال من ترامب لحلحلة الأزمة. راقب رئيس الأركان إيال زامير صخب الجدل الإسرائيلي، واستلهم منه حتمية حسم الموقف، للحيلولة دون توريط مؤسسته فى جولة جديدة من الحرب فى قطاع غزة، فقرر العمل من وراء ظهر نتنياهو ووزير دفاعه يسرائل كاتس، واتخذ قرارًا أحاديًا يقضى بعدم العودة للقتال تحت أى ظرف. وقالت صحيفة «معاريف» إن «موقف زامير وفريقه كان متداولًا منذ فترة بين أروقة قيادة الأركان، لكنه ثبت أن كبار قادة الجيش لن ينتظروا المستوى السياسي، وأنهم يعملون فعليًا على وضع أوزار الحرب، حتى إذا كان ذلك عبر إشارات واضحة». وخلافًا لتلويح نتنياهو وكاتس باستئناف القتال فى قطاع غزة، وتعويلهما على ذلك فى توجيه رسائل ردع إلى حماس، وربما إلى دوائر إقليمية ودولية أخرى، وجه زامير رسالة واضحة، معلنًا «تشكيل لجان لتوزيع أنواط وأوسمة على قادة الوحدات والمقاتلين فى حرب «السيوف الحديدية» بقطاع غزة». واعتبرت «معاريف» الخطوة بمثابة «إعلان رسمى من المستوى العسكرى عن وقف الحرب، وعدم التجاوب مع أى قرار يغاير ذلك». وأشارت إلى أن «تقاليد الجيش الإسرائيلى ترهن توزيع الأوسمة والأنواط على المقاتلين المتميزين بنهاية العمليات العسكرية، سواء فى قطاع غزة، أو غيره من الساحات القتالية». وعزت الصحيفة العبرية تقديراتها إلى دليل آخر، أكده خطاب رئيس الأركان إيال زامير فى مراسم إحياء ذكرى 7 أكتوبر، والذى قال فيه نصًا: «فى هذا اليوم، لا تستطيع أنظارنا تجاهل فشل تعاطينا مع يوم 7 أكتوبر. لكن دعونا نتطلع إلى مستقبلنا، ونحنى رءوسنا إجلالًا للمدنيين والقادة والمقاتلين، الذين ضحوا بأرواحهم ببسالة». وأضاف: «التزامنا هو مواصلة مرافقة العائلات الثكلى، والمقاتلين، والمصابين جسديًا ونفسيًا، وكذلك الناجين من الأسر. لن نهدأ ولن نصمت حتى نعيد آخر جثمان من الرهائن، فهذا واجب أخلاقى علينا». وأضاف زامير فى خطابه: «انطلاقًا من التزامنا، أجرينا تحقيقات بخصوص المعارك، وعرضناها على الدوائر المعنية. نواصل التعلم والدراسة واستيعاب الدروس. لن يكرر الجيش الإسرائيلى أخطاء الماضى». رغم موقف زامير وقادة أركان الجيش الإسرائيلى تضامنًا معه، ألمحت «معاريف» فى مقال آخر إلى أن «وقف إطلاق النار فى قطاع غزة أو فى جبهات أخرى يقتصر فقط على مواقف رسمية تغاير الواقع تمامًا»؛ مشيرة إلى أن قادة الجيش الإسرائيلى يدركون أكثر من أى وقت مضى أن الحرب ربما انتهت رسميًا، لكن رحاها لن تتوقف لفترة طويلة جدًا، انطلاقًا من عقيدة إسرائيلية لا تقبل القسمة على اثنين: الواقع فى الشرق الأوسط يؤكد أن إبرام الصفقات، وإطلاق سراح الرهائن، وعقد مؤتمرات السلام شيء، والإبقاء على ذراع إسرائيل العسكرية قوية وفعالة شيء آخر. واعتبرت الصحيفة العبرية أن «إسرائيل لن تتمكن من إدارة أجندتها فى منطقة الشرق الأوسط، إلا من خلال الاعتماد على القوة»، واعترفت أيضًا بأن اتفاق وقف إطلاق النار فى قطاع غزة لن يقوِّض حرية عمل الجيش الإسرائيلي، أو يمنعه من ترسيم خطوط حمراء فى القطاع عبر إطلاق النار بين فينة وأخرى على معاقل حماس. ولترسيخ الاستراتيجية الإسرائيلية، تطرقت «معاريف» إلى تزامن وقف إطلاق النار فى قطاع غزة مع عمليات الجيش الإسرائيلى فى الضفة الغربية، والجنوب اللبناني، وسوريا، وكذلك اليمن؛ وعزت ذلك إلى ما أسمته هدفين لا ينبغى التنازل عنهما: «اليقظة التامة ليلًا ونهارًا، وتبنى عقيدة أننا نعيش فى غابة شرق أوسطية، واللغة الوحيدة المتداولة هنا هى القوة والجبروت»!