الشرقية - إسلام عبدالخالق بين الحقول المحيطة بقرية «بيشة قايد» على أطراف الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية، وبينما تتشابه البيوت هناك، كان المكان هادئًا كعادته تعلوه سنابل الوحدة كحال من يسكنه؛ «جمال» موظف الضرائب العقارية الذي قضى سنوات عمله حتى وصل سن المعاش، وأفنى سنوات عمره الخمسة وستون هنا بين جدران البيت، أوقاتٍ طيبة طويلة لا تزال ذكرياتها تصاحبه رغم غياب الجميع عن البيت، زوجته التي رحلت عن الدنيا وشيعها إلى مثواها الأخير قبل أعوامٍ، وبناته الثلاث اللاتي تزوجن ليتركنه وحيدًا يواجه غروب العمر بصمتٍ ثقيل ووحدة تكسو كل ما حوله. الحب وحده كل ما تبقى ل «جمال»، عيناه الرماديتان من خلف نظارته العتيقة تحملان ذكريات عمره، وبين جدران البيت يسكن ما تبقى من أثر ملموس يشبه المتحف لزمن جميل مضى، وفي الأمسيات، يجلس على كرسيه الهزاز يجتر ما تبقى له من صور توثق لحظات سعادة هي التي بقيت في ذاكرته، لكن هناك وفي مكانٍ آخر من القرية، بين أفران المخبز ودخانه، كان الطرف السيئ في القصة، «حنوني» الموظف السابق بقطاع الري الذي وجد ضالته في العمل خبازًا وقد وصلت سنواته عتبة الخمسين، رجل يعرفه جميع من في البلدة، يبتسم للزبائن ويقدم الخبز الساخن كل صباح وقرب أوقات حلول المساء، لكن، ما لم يعرفه أحد أن وراء تلك الابتسامات تختبئ نوايا مظلمة، وأن قلبه كان يخبئ حسدًا بالغ العمق للجار الذي كان يراه-في خياله- أكثر حظًا منه، خاصةً في درب بنات حواء. بدأت الخيوط الأولى للجريمة تتشكل عندما لاحظ الخباز أن جاره العجوز يعيش بمفرده، وكانت سعادة «جمال» رغم وحدته تثير حنق «الصاحب الغشاش»، فضلًا عما يسبق سيرة الطرف الثاني من مصاحبة السيدات -حسبما يُشاع؛ فهو الذي كان بمثابة كاتم أسراره وصديق وحدته الذي شكلت الحاجة لوجوده وأضافت لقيمته قيمًا نبيلة من قيم الصداقة و«الصحوبية»، إلا أن ذيل الماكر يظل معكوفًا مهما جاهد في حثه على الاعتدال. فكرة شيطانية اختمرت الفكرة شيئًا فشيئا في ذهن «حنوني»، وراح يراقب منزل جاره وراجع بينه ونفسه الشيطانية عاداته اليومية، يسرد ويختزل خط سيره اليومي، تحركاته البسيطة وقد دونها بعناية في مخيلته، وما أن أتم دراسته السوداء حتى استيقظ شيطانه من جديد ليوسوس له بأن الأمر قد طابت فكرته وحان وقت استغلال وحدة صاحبه والاستيلاء على ما يدخره من أموالٍ ربما لا يعرف بها أحد، حتى بناته. بينما تنسدل خيوط الظلام على صفحة سماء القرية، ومع الدقائق القريبة من ميلاد ساعات اليوم الجديد، حمل الخباز سلاحه الأبيض على غير عادته، ولف السكين في قطعة من القماش، وتوجه بخطواتٍ واثقة إلى البيت الذي يمني نفسه بأن يحوي الكثير من «الرزم» التي يسيل لها لعاب طمعه في الثراء بغير عناء، إلا أن فعلاته ربما قد خططت لجريمة هان عليه ارتكابها في سبيل غرضه الدنيء. دق الباب بتردد في البداية، ثم بثقة متصنعة عندما سمع خطوات صديقه تقترب، وما أن أجاب صاحب البيت حتى دلف تسبقه كلماته ووعده الزائف: «عم جمال اللي واحشني، جيت أقعد معاك شوية وأونسك لغاية ما الحاجة الحلوة توصل»، وخرجت الكلمات واهية يكاد يجف معها ريق صاحبها، قبل أن يتوقف ليطمئن على وقع صداها في نفس صاحبه، وكان الترحاب أكبر دليل على أن خدعته قد انطلت على صديقه. استقبل «جمال» ضيفه بترحاب، عيناه تلمعان بسعادة غير متوقعة، قبل أن يمسك بيد صديقه وهو يجذبه إلى داخل البيت: «وحشتني يا حنوني ووحشني كلامك الحلو». جلس الرجلان في الصالة البسيطة، وبينما كان جمال يثرثر عن وحدته ويجتر ذكرياته عن زوجته الراحلة وأيام الشباب، كان «حنوني» يبتسم ابتسامة مصطنعة وعيناه تتجولان في أرجاء الغرفة كمن يراها للمرة الأولى، أو ربما يبحث عن غايته ومكان المال الذي هيأ نفسه لامتلاكه مهما كانت الظروف. وقتٍ ليس بالطويل قضاه الخباز في بيت صاحبه، قبل أن يغافله ليتمكن من الاستيلاء على أمواله وهاتفه المحمول، بيد أن السرقة ربما لم تكن جريمته الوحيدة التي هيأ نفسه لارتكابها؛ إذ أخذ في الاقتراب أكثر من صديقه بحجة مساعدته في إحضار الشاي، ثم فجأة.. انقض عليه كالثعبان الذي ينثر سمه في الهواء قبل أن يفتك بضحيته. «مالك يا حنوني فيه إيه»؟!.. استفهام وتعجب صبغ لسان حال صاحب المعاش وهو يرى ممن يظنه صديقه ما لم يتوقعه محاولًا صد الهجوم ولمعة سكين يحمله صاحبه، لكن السنوات الطويلة أضعفت قوته، وانغرست الشفرة الحادة في عنقه أولًا لتذبح رقبته، قبل أن تواصل ضرباتها في صدره عدة مرات. تناثرت الدماء على السجادة العتيقة، وعلى الجدران التي تحمل صور العائلة، واتسعت معها عينا جمال هو ينطق بكلمته وسؤاله الأخير «ليه؟»، قبل أن تسكن حركته رغم هزات جسده وحشرجته بعدما لفظ آخر أنفاسه. واصل «حنوني» طعناته حتى تأكد من أن صديقه قد فارق الحياة، ثم بدأ يفتش المنزل بنهمٍ جديد، يحاول جمع المزيد من النقود وكل ما وجد فيه رائحة الأشياء الثمينة، وكذلك الهاتف المحمول الذي يحمل صورة زوجة صاحبه وبناته الثلاث كمن كن يؤانسن وحدته. كأن كل قطعةٍ يسرقها تشعره بقوةٍ مؤقتة، راح الخباز يتناسى إنسانيته التي تسقط عنه جزءًا تلو الآخر، وحين انتهى كانت الكفة كأنها تعادلت، فقيد لوعدٍ زائف وصداقة مصطنعة مسجى وقد تخضبت الأرض بدمائه، ولص سارق سافك للدماء يحمل بعض النقود والأشياء الثمينة الهاتف يقبض عليه فيما تسيل من سكينه بضع قطرات دماء صاحبه، حتى غادر القاتل المكان خِلسة قرب رفع آذان فجر اليوم الجديد. كشف الجريمة مرت الساعات ثقيلة والجثة وحيدة حتى جاءت ابنة جمال الوسطى، قلقة من انقطاع اتصال والدها وهاتفه الذي بقي خارج الخدمة، لا تعرف أهي التي غابت عنه أم أن سؤالها قد كان ضمن مدة الغياب قد تأخر، وحين دقت الجرس ولم يجبها زادت قلقًا على قلقها، قبل أن تخرج مفتاحًا كان معها للطوارئ، دفعت بيدها الباب تسبقها غريزة الابنة والأمومة معًا كون والدها وحيد في غيابها وأخواتها منذ وفاة والدتها، وفي الردهة وجدت ما لم تكن تتمنى أن تجده، دماء آثارها بادية، وحين زادت خطواتها للداخل واحدة توقفت وصرخت لتُسمع الجميع وهي تطالع عيناها جثة والدها وقد جف الدماء فوقها، في صرخة هزت الزمن والمكان معًا ليحضر على إثرها الجيران وبعض أهل القرية. داخل مشرحة مستشفى الأحرار التعليمي في مدينة الزقازيق وصل جثمان القتيل «جمال .م .ع» موظف سابق في الضرائب العقارية وقد بلغ المعاش وسن التقاعد قبل أكثر من عامين، فيما بينت التحريات مقتله بدافع السرقة. لأيامٍ ظلت التحريات وخيوط البحث تتصل وتنقطع حتى تمكن رجال المباحث الجنائية أخيرًا من كشف غموض ما جرى؛ إذ تبين أن مرتكب الجريمة هو جار المجني عليه في القرية وصديقه المدعو «حنوني أ د» خباز في أحد مخابز البلدة وهو الذي عمل فيما سبق بقطاع الري. ضبط المتهم وسلاح جريمته، وبمواجهته أقر بأنه قد ارتكب جريمة القتل بدافع السرقة طمعًا في مال المجني عليه، فيما تحرر عن ذلك محضر بالواقعة في مركز شرطة الزقازيق، وبالعرض على النيابة العامة وجهت للمتهم تهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، واقتران جناية القتل بالسرقة في ذات الزمان والمكان، وأمرت بحبسه احتياطيًا على ذمة التحقيقات مع مراعاة التجديد له في الموعد القانوني حتى انتهاء التحقيقات وإحالته إلى المحاكمة الجنائية. اقرأ أيضا: مقتل شاب على يد جاره في ميت حمل بالشرقية.. والأسرة تروي التفاصيل |فيديو